الخميس، 16 مايو 2013

الفصَــامُ النَّكِـــدْ



الفصَــامُ النَّكِـــدْ
المستقبل لهذا الدين
سيد قطب



ليس من طبيعة (الدين) أن ينفصل عن الدنيا وليس من طبيعة المنهج الإلهي أن ينحصر في المشاعر الوجدانية، والأخلاقيات التهذيبية، والشعائر التعبدية. او في ركن ضيق من أركان الحياة البشرية.. ركن ما يسمونه (الأحوال الشخصية).

ليس من طبيعة (الدين) أن يفرد لله -سبحانه- قطاعاً ضيقاً في ركن ضئيل-او سلبي- في الحياة البشرية، ثم يسلم سائر قطاعات الحياة الإيجابية العملية الواقعية لآلهة أخرى وأرباب متفرقين، يضعون القواعد والمذاهب، والأنظمة والأوضاع، والقوانين والتشكيلات على أهوائهم، دون الرجوع إلى الله!

ليس من طبيعة (الدين) أن يشرع طريقاً للاخرة، لا يمر بالحياة الدنيا! طريقاً ينتظر الناس في نهايته فردوس الآخرة عن غير طريق العمل في الارض، وعمارتها، والخلافة فيها عن الله، وفق منهجه الذي ارتضاه!

ليس من طبيعة (الدين) أن يكون هذا المسخ الشائه الهزيل! ولا هذه الألعوبة المزوقة التي يلهو بها الأطفال! ولا هذه المراسم التقليدية التي لا علاقة لها بنظم الحياة العملية!

ليس من طبيعة (الدين) -أي دين فضلاً عن دين الله- أن يكون هذا العبث الممسوخ الهزيل.. فمن أين إذن جاءته هذه السلبية الهازلة ؟ وكيف إذن وقع ذلك (الفصام النكد) بين الدين والحياة ؟.

لقد تم ذلك (الفصام النكد) في ظروف نكدة! وكانت له آثاره المدمرة في أوروبا.. ثم في الأرض كلها، حين طغت التصورات الغربية، والأنظمة الغربية، والأوضاع الغربية، على البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها..

ولم يكن بد-وقد انفصمت حياة المخاليق عن منهج الخالق- ان تسير في هذا الطريق البائس؛ وان تنتهي إلى هذه النهاية التعيسة؛ وان تحيط بالبشر الدائرة التي يتعذبون الآن في داخلها، ويذوق بعضهم بأس بعض، بينما هم عاجزون عن معرفة طريق الخلاص منها.. وهم يصطرخون فيها..!!.

وليس هنا مجال الحديث عن الشقوة التي تصطرخ فيها البشرية فسيجيء شيء عنها في الفصول التالية. فلنعد إلى الحديث عن تلك الظروف النكدة، التي وقع فيها ذلك (الفصام النكد).

*    *    *

لقد جاءت اليهودية لتكون منهجاً لحياة بني إسرائيل-كما جاء كل دين قبلها ليكون منهج حياة لمن جاءهم- كذلك جاءت النصرانية - بعد اليهودية - لتكون المنهج المعدل لبني إسرائيل.

ولكن اليهود لم يقبلوا رسالة المسيح-عليه السلام- ولم يقبلوا منه التخفيف الذي جاءهم به من عند الله. وهو يقول لهم-كما حكى القرآن الكريم:

"ومصدقاً لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وجئتكم بآية من ربكم، فاتقوا الله وأطيعون"..

[آل عمران:50]

ومن ثم قاوموا المسيح-عليه السلام- وقاوموا دعوته إلى السماحة والسلام والتطهر الروحي، والتخفف من المراسم الشكلية التي لا رصيد لها من تقوى القلوب! وانتهى بهم الامر إلى إغراء (بيلاطس) الحاكم الروماني على ارض الشام يومئذ بمحاولة قتل المسيح-عليه السلام-وصلبه. لولا أن توفاه الله ورفعه إليه (في صورة لا نعلم كيفيتها لأنه ليس عندنا نص قاطع من قرآننا ولا سنة نبينا عليها).

وأيا ما كان الأمر، فقد سارت الأمور بعد ذلك الحين بين اليهود واتباع عيسى-عليه السلام- سيرتها البائسة. فبذرت بذور الحقد على اليهود في نفوس الذين صاروا نصارى. كما بذرت بذور الكره في نفوس اليهود على هؤلاء! وانتهت بانفصال اتباع المسيح عن اليهود، وانفصال النصرانية عن اليهودية (وهي جاءت في الأصل لتكون تجديداً لليهودية وتعديلاً طفيفاً في أحكامها، مع الإحياء الروحي والتهذيب الخلقي العميق الواضح في دعوة المسيح عليه السلام).

ولما وقعت الجفوة والفرقة-بل البغضاء والحقد- بين اتباع عيسى عليه السلام واليهود، انفصل كتابهم الإنجيل-في حسهم- عن التوراة-وان بقيت التوراة وكتبها معدودة عندهم من الكتاب المقدس- وانفصلت شريعتهم عن شريعة التوراة. بينما جسم الشريعة لبني إسرائيل كلهم في التوراة.. وبذلك لم يعد للنصرانية بهذا الانفصال شريعة مفصلة تنظم الحياة!

ولكن التصور الاعتقادي-كما جاء به المسيح عليه السلام من عند الله- كان كفيلاً-لو ظل سليماً- أن يقدم التفسير الصحيح للوجود، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية وجوده الإنساني.. هذا التفسير الذي يمكن ان يقوم عليه نظام اجتماعي. كما كان ذلك التصور - لو ظل سليماً كما جاء من عند الله- كفيلاً أن يرد النصارى إلى الشريعة التي تضمنتها التوراة، مع التعديلات التي جاء بها المسيح للتخفيف في بعض تكاليف العبادة وتكاليف الحياة.

غير ان الذي حدث، هو ان عهداً طويلاً من الاضطهاد الفظيع قد اظل اتباع عيسى عليه السلام. سواء من اليهود المنكرين، او من الرومان الوثنيين، الذين كانوا يحكمون وطن المسيح. مما اضطر الحواريين-تلاميذ المسيح- واتباعهم وتلاميذهم الى التخفي، والتنقل والعمل سراً، فترة من الوقت طويلة. ومما اضطرهم كذلك إلى تناقل نصوص الانجيل، وتاريخ عيسى عليه السلام، وأحداث الفترة التي عاشها بينهم تناقلاً خاطفاً، في ظروف لا تسمح بالدقة ولا بالتواتر.. مما انتهى إلى رواية نصوص الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى-عليه السلام- في ثنايا روايات عن حياته وأعماله؛ يختلف بعضها عن بعض؛ فيما سمي بالأناجيل.. وهي كلام هؤلاء التلاميذ ورواياتهم عن حياة المسيح، متضمنة في ثناياها بعض ما يروى من كلام السيد المسيح.. وقد كتب اقدم هذه الأناجيل بعد المسيح بجيل كامل، ويختلف المؤرخون للنصرانية اختلافاً كبيراً في تحديد تاريخه ما بين40 سنة و64 سنة، كما يختلفون في اللغة التي كتب بها.. إذ لم توجد سوى ترجمة له..

ولقد كان من نصيب (بولس) ( الذي لم ير المسيح -عليه السلام- وإنما دخل النصرانية من الوثنية الرومانية) أن يتولى نشر النصرانية في أوروبا. مطعمة بما رسب في تصوراته من الوثنية والفلسفة الإغريقية.. وكانت هذه كارثة على النصرانية منذ أيامها الأولى في أوروبا.. فوق ما لحق بها من تحريف في فترة الاضطهاد الأولى. فترة تناقل الروايات في ظروف لا تسمح بتمحيصها ولا بتواترها!.

(وكتب بولس رسائله بعد ذلك-بعد القرن الأول الميلادي- وهي شاهد على امتزاج الأمثلة الدينية بصور الفلسفة-ولا سيما فلسفة الحلول- وكان يقول: ان المسيح جالس على يمين الله، ويدعو لمن يطلب لهم الخير "أن تسكن فيهم كلمته" ويسأل لهم الغفران منه، ويبشرهم بأنهم سيبلغون المجد متى عاد إلى الأرض! ويبدو من جملة كلامه انه كان ينتظر معاده في زمن قريب. وكثيراً ما أشار إليه-صلوات الله عليه- باسم:"ربنا يسوع المسيح"! وسمى نفسه باسم:"رسول يسوع المسيح بحسب أمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح!") ( ).

*      *      *

ولكن الكارثة العظمى كانت في الحدث الذي تم بعد ذلك. وكان ظاهره انتصار النصرانية، وهو دخول الإمبراطور الروماني (قسطنطين) في النصرانية، واستطاعة الحزب النصراني أن يصبح هو الحاكم سنة 355م.

ويصف درابر الأمريكي في كتابه(الدين والعلم) هذا الحادث وآثاره النكدة يقول:

( دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين، الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية في الدولة الرومية، بتظاهرهم بالنصرانية ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين، ولم يخلصوا له يوما من الأيام.. وكذلك كان (قسطنطين).. فقد قضى عمره في الظلم والفجور؛ ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره (سنة 337م).

( ان الجماعة النصرانية، وان كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك، ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية، وتقلع جرثومتها. وكان نتيجة كفاحها ان اختلطت مبادئها، ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء.. هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه (الوثنية) قضاء باتا، ونشر عقائد خالصة بغير غبش ..

(وان هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا، والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين-النصراني والوثني-ان يوحدهما ويؤلف بينهما: حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة. ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة! وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها) ( ).

*      *      *

ولكن الديانة الجديدة لم تتخلص-بعد ذلك- قط من أدناس الوثنية وأرجاسها-كما أمل النصارى الراسخون- فقد ظلت تتلبس بهذه الأساطير والتصورات الوثنية. ثم زادت الطينة بلة. فأصبحت تتلبس كذلك بالخلافات السياسية والعنصرية، وأصبحت العقيدة تغير وتنقح لتحقيق أهداف سياسية:

يقول (الفرد بتلر) في كتابه: (فتح العرب لمصر) ترجمة الأستاذ (محمد فريد أبو حديد):

(إن ذينك القرنين-الخامس والسادس- كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين. نضال يذكيه اختلاف في الجنس واختلاف في الدين. وكان اختلاف الدين اشد من اختلاف الجنس إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت، تلك العداوة بين (الملكانية) و (المونوفيسية) وكانت الطائفة الأولى-كما يدل عليها اسمها- حزب مذهب الدولة الإمبراطورية، وحزب الملك والبلاد. وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة-وهي ازدواج طبيعة المسيح- على حين أن الطائفة الأخرى وهي حزب القبط المنوفيسيين-أهل مصر- كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها، وتحاربها حرباً عنيفة، في حماسة هوجاء، يصعب علينا ان نتصورها، او نعرف كنهها في قوم يعقلون. بله يؤمنون بالإنجيل!)..

ويقول (ت.و.أرنولد) في كتابه: (الدعوة إلى الإسلام) ترجمة حسن إبراهيم وزميليه، عن هذا الخلاف الطائفي السياسي العنصري وآثاره في الابتداعات والإضافات والتعديلات في النصرانية:

"… ولقد افلح (جستنيان) قبل الفتح الإسلامي بمئة عام في ان يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة. ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قوي مشترك، يربط الولايات وحاضرة الدولة".

(أما هرقل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية. ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى-لسوء الحظ- إلى زيادة الانقسام، بدلاً من القضاء عليه. ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية. فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس، ان يقف ما يمكن ان يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات، وان يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الارثوذكسية؛ وبينهم وبين الحكومة المركزية) ( ).

(وكان مجمع خلقيدونية قد أعلن في سنة451 ميلادية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتيه، لا اختلاط بينهما، ولا تغير، ولا تجزؤ، ولا انفصال. ولا يمكن أن ينتفي خلافهما بسبب اتحادهما. بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منها بخصائصها، وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد. لا كما لو كانت متجزئة او منفصلة في أقنومين. بل مجتمعة في أقنوم واحد: هو ذلك الابن، والله، والكلمة)..

(وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع، وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة. وقالوا: انه مركب الأقانيم. له كل الصفات الإلهية والبشرية. ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم..

وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطية، في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين، عن طريف المذهب القائل بان للمسيح مشيئة واحدة.. ففي الوقت الذي نجد فيه. هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية. وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد. فالمسيح الواحد-الذي هو ابن الله-يحقق الجانب الإنساني والجانب الإلهي، بقوة إلهية إنسانية واحدة. ومعنى هذا انه لا يوجد سوى إرادة واحدة، في الكلمة المتجسدة..

لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداً ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام. ذلك بان الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب. بل إن هرقل نفسه قد وصم بالالحاد، وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء( ).

*      *      *

هذه الملابسات التي عاجلت النصرانية في بدء نشأتها أولاً، ثم عند انتصارها السياسي على ذلك النحو ثانياً، ثم ما تلا ذلك الانتصار من خلافات سياسية وعنصرية وتحريفات وتعديلات في العقيدة بسببها ثالثاً..

كل أولئك قد ملأ التصور الاعتقادي فيها بعناصر غريبة كل الغرابة على طبيعتها، وعلى طبيعة(الدين الإلهي) كله.. ومن ثم لم يعد التصور النصراني-كما صنعته التحريفات المتوالية أولاً ثم كما صاغته المجامع المقدسة العامة والخاصة أخيراً( ) - قادراً على أن يعطي التفسير الإلهي للوجود وحقيقته، وحقيقة صلته بخالقه. وحقيقة هذا الخالق وصفاته، وحقيقة الوجود الإنساني وغايته وطريقه.. هذه المقومات التي لابد أن تصح كي يصح النظام الاجتماعي الذي ينبثق منها، ويقوم بعد ذلك عليها.

*     *     *

غير أن الأمر لم يقف عند فساد التصور الاعتقادي على هذا النحو؛ بل مضت الملابسات النكدة في طريقها خطوات أخرى عاثرة!

لقد أرادت الكنيسة أن تقف في وجه الترف الروماني، والسعار الشهواني الذي كانت الإمبراطورية الرومانية قد انتهت اليه، قبل دخولها في النصرانية، والذي يصفه درابر الأمريكي في كتابه (الدين والعلم) بقوله:

"لما بلغت الدولة الرومية في القوة الحربية والنفوذ السياسي اوجها، ووصلت الحضارة إلى أقصى الدرجات.. هبطت في فساد الأخلاق، وفي الانحطاط في الدين والتهذيب إلى أسفل الدركات.. بطر الرومان معيشتهم واخلدوا إلى الأرض، واستهتروا استهتاراً، وكان مبدؤهم ان الحياة إنما هي فرصة للتمتع، ينتقل فيها الإنسان من نعيم إلى ترف، ومن لهو إلى لذة. ولم يكن اعتدالهم إلا ليطول عمر اللذة! كانت موائدهم تزهو بأواني الذهب والفضة مرصعة بالجواهر، ويحتف بهم خدم في ملابس جميلة خلابة، وغادات رومية حسان، وغوان كاسيات عاريات غير متعففات تدل دلالاً. ويزيد في نعيمهم حمامات باذخة، وميادين للهو واسعة، ومصارع يتصارع فيها الأبطال مع الأبطال، أو مع السباع؛ ولا يزالون يصارعون حتى يخر الواحد منهم صريعاً يتشحط في دمه. وقد أدرك هؤلاء الفاتحون الذين دوخوا العالم، انه ان كان هناك شيء يستحق العبادة فهو القوة، لأنه بها يقدر الإنسان ان ينال الثروة التي يجمعها أصحابها بعرق الجبين وكد اليمين، وإذا غلب الإنسان في ساحة القتال بقوة ساعده، فحينئذ يمكن أن يصادر الأموال والأملاك، ويعين إيرادات الإقطاع، وان راس الدولة الرومية هو رمز لهذه القوة القاهرة، فكان نظام رومة يشف عن أبهة الملك. ولكنه كان طلاء خادعاً كالذي نراه في حضارة اليونان في عهد انحطاطها( ).

أرادت الكنيسة أن تقف في وجه هذا السعار الجامح، وهذا التردي الكاسح.. ولكنها لم تسلك إليه طريق الفطرة السوية المعتدلة المتزنة، ولا كان قد بقي بين يديها من حقيقة التصور النصراني الصحيح ما تقيم به الميزان بين الناس بالقسط، ولا ما تقيم به الميزان بين الإفراط والتفريط في وظائف فطرتهم الطبيعية.

عندئذ اندفع في الجانب الآخر تيار من (الرهبانية) العاتية، لعلها كانت اشأم على البشرية من بهيمة الرومان الوثنية. واصبح الحرمان من طيبات الحياة، وسحق الخصائص الفطرية في الإنسان، ومحق الطاقات والاستعدادات التي خلقها الله فيه لتكفل بقاء النوع من ناحية، كما تكفل عمارة الأرض والقيام بفرائض الخلافة فيها من ناحية أخرى.. اصبح هذا الانحراف العاتي عن الفطرة هو عنوان الكمال والتقوى والفضيلة.. الأمر الذي لم يأذن به الله، ولا يمكن أن تستقيم معه حياة!

ولم ينشئ ذلك علاجاً لذلك الانحلال. ولكنه انشأ صراعاً بين طرفين جامحين، كلاهما بعيد عن جادة الفطرة وحقيقة حاجات الإنسان.

ويصور (ليكى) في كتابه: (تاريخ أخلاق أوروبا) ما كان عليه العالم النصراني في ذلك العصر من التاريخ بين الرهبانية والفجور.. بقوله:

"إن التبذل والإسفاف قد بلغا غايتهما في أخلاق الناس واجتماعهم. وكانت الدعارة والفجور، والإخلاد إلى الترف، والتساقط على الشهوات، والتحلق في مجالس الملوك وأندية الأغنياء والأمراء، والمسابقة في زخارف اللباس والحلي والزينة في حدتها وشدتها.. كانت الدنيا في ذلك الحين تتأرجح بين الرهبانية القصوى والفجور الأقصى. وان المدن التي ظهر فيها اكثر الزهاد كانت اسبق المدن في الخلاعة والفجور( ).

وهكذا عجز نظام الرهبنة، المنبثق من تصورات كنسية ومجمعية منحرفة عن اصل التصور النصراني الرباني، عن أن يكون حتى نظاماً أخلاقياً للعالم النصراني. وخلف في النفوس جفوة للدين-والدين منه براء!-وترك فيها تحفزاً للانتقاض عليه وعلى نظامه الذي لا تطيقه الفطرة.. وكان عاملاً نكداً من عوامل ذلك ( الفصام النكد) في نهاية المطاف!

*      *      *

ثم كانت الطامة يوم اكتشف الناس، الذين تأخذهم الكنيسة بهذا الحرمان القاسي، وتنذرهم باستحالة نفاذهم إلى الجنة إذا هم زاولوا من طيبات الحياة شيئاً!..

نقول: كانت الطامة يوم اكتشف الناس ان حياة رجال الكنيسة الشخصية، لا تعج بالمتاع بالطيبات فحسب! ولا تسقط في الترف فحسب! وإنما هي تعج بالفواحش والمناكر في اشد صورها شذوذاً وفحشاً ونكراً!

يقول درابر في كتابه: (الدين والعلم):

لم تكن الرهبانية والنظام الديني السلبي إلا مصادمة للفطرة. فبقيت مقهورة بعوامل الديانة الجديدة وسلطانها الروحي، وساعدتها عوامل أخرى. ثم قهرت الطبيعة، وتسرب الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية، حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية-وربما تسبقها في فساد الأخلاق والدعارة والفجور. لذلك وقفت الحكومة المآدب الدينية، والأولياء وذكرياتهم، التي وجدت فيها الخلاعة والفجور حمى ومرتعاً، واتهم القسوس بكبائر ومنكرات.

(ويقول الراهب جروم (jerume) : ان عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين. وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال، وعدوا طورهم، حتى انهم كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع، وقد تباع بالمزاد العلني، ويؤجرون ارض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران، ويأذنون بنقض القانون، ويمنحون شهادات النجاة، وأجازات حل المحرمات والمحظورات، كأوراق النقد وطوابع البريد، ويرتشون ويرابون. وقد بذروا المال تبذيراً، حتى اضطر البابا (إنوسنت الثامن) أن يرهن تاج البابوية! ويذكر عن البابا (ليو العاشر) انه انفق ما ترك البابا السابق من ثروة واموال، وانفق نصيبه ودخله، واخذ إيراد خليفته المترقب سلفاً وأنفقه! ويروى ان مجموع دخل فرنسا لم يكن يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم!) ( ).

ومسألة صكوك الغفران التي يشير إليها درابر في الفقرة السابقة، كانت الكنيسة قد قررت أن تمنح لنفسها الحق في إعطائها في أحد المجامع الكنسية الكثيرة، التي كانت تجتمع بين الحين والحين. وتغير وتبدل وتحرف وتنشئ وتضيف ما تشاؤه الأهواء (المقدسة!) إلى العقيدة النصرانية!

(وقد جاء في كتاب: تاريخ الكنيسة في بيان قرار المجمع الثاني عشر في هذا الشأن:

(أنهى المجمع تعليمه، فيما يتعلق بأمر الغفران، فقال: ان يسوع المسيح لما كان قد قلد كنيسته سلطان منح الغفرانات ، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلي منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجمع المقدس وأمر، بان تحفظه للكنيسة، في الكنيسة، هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي، والمثبتة بسلطان المجامع.. ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون ان الغفرانات غير مفيده، او ينكرون على الكنيسة سلطان منحها. غير انه قد رغب في ان يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز، حسب العادة المحفوظة قديماً، والمثبتة في الكنيسة، لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل).

"…وهذا نص صك الغفران، الذي كان يباع بيع السلعة":

(ربنا يسوع يرحمك (يا فلان)، ويحلك باستحقاقات الآمة الكلية القداسة. وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي، احلك من جميع القصاصات، والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها وأيضاً من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها-مهما كانت عظيمة وفظيعة- ومن كل علة-وان كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي- وأمحو جميع أقذار الذنب، وكل علامات الملامة، التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة. وارفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر؛ وأردك حديثاً إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين. أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك، حتى انه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطأ إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي الى فردوس الفرح. وان لم تمت سنين مستطيلة، فهذه النعمة تبقى غير متغيرة، حتى تأتي ساعتك الأخيرة.. باسم الأب والابن والروح القدس..) ( ).

فإذا أضفنا هذه إلى تلك.. إذا أضفنا عنت الكنيسة في اخذ الناس بالحرمان القاسي، باسم الدين-والدين بريء!- إلى ترف رجال الكنيسة وفساد حياتهم.. إلى مهزلة صكوك الغفران، أدركنا طرفاً من تلك الملابسات النكدة، التي أدت في النهاية إلى (الفصام النكد) في تاريخ أوروبا المنكود!..

*      *      *

غير أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود.. فقد دخلت الكنيسة في نزاع طويل وحاد مع الأباطرة والملوك-لا على الدين والأخلاق- ولكن على السلطة والنفوذ.

وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر، فاشتدت بعنف، وحمى وطيسها، وانتصرت فيها البابوية أولاً حتى أن هنري الرابع ممثل الإمبراطورية اضطر في سنة 1077م أن يتقدم بخضوع نحو البلاط البابوي في قلعة كانوسا.. ولم يسمح له البابا بالدخول إلا بعد أن يشفع له الرجال، فسمح له بالمثول بين يديه، فدخل الإمبراطور حافياً. لابساً الصوف، وتاب على يديه؛ فغفر له البابا زلته.. وكانت الحرب بين البابوية والإمبراطورية بعد ذلك سجالاً حتى ضعفت البابوية( ).

وقد حدث في سنة 1245-كما جاء في كتاب (سوسنة سليمان)-أن المجمع الثالث عشر انعقد في ليون من أعمال فرنسا، بأمر البابا. (إنوسنت) الرابع، لأجل عزل فردريك ملك فرنسا وحرمه. ولكن كنيسة فرنسا لم تسلم بصحته او بسلطانه! ( ).

ولما كانت الكنيسة-إلى جوار صراعها مع الأباطرة والملوك على السلطة- قد فرضت لنفسها سلطاناً على الجماهير؛ واستغلته ابشع استغلال، في فرض الإتاوات المالية الباهظة التي تجبى إليها مباشرة؛ مما جعل الناس يئنون تحت هذا الإرهاق، فقد استغل الحكام الساخطون هذا الضغط العام ليثيروا السخط العام على الكنيسة؛ واستخدموا لهذه الغاية كل وسيلة؛ وفي أولها فضح رجال الدين؛ وكشف أقذارهم وأدناسهم، وبيان خبايا حياتهم الشخصية، التي يخفونها وراء وقار الزي الكهنوتي والمراسم الكنسية!!!

*     *     *

وكانت القاصمة التي تم بها ذلك (الفصام النكد) وانتهى بها الأمر في أوروبا بين الدين والحياة، وانقطع بها نهائياً ما بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي من سبب.. بل كانت الجناية الكبرى التي جنتها الكنيسة الغربية على نفسها، وعلى الدين النصراني، ثم على الدين كله في الأرض جميعاً-إلى أن يأذن الله بتغيير الأحوال- هي ذاك:

لقد احتجزت (الكنيسة) لنفسها حق فهم (الكتاب المقدس) وتفسيره، وحظرت على أي عقل من خارج (الكهنوت) أن يحاول فهمه او تفسيره.

ثم اتبعت هذا بإدخال معميات في العقيدة لا سبيل لإدراكها او تصورها او تصديقها.. وقد ذكرنا مثلاً من هذه المعميات في النص الذي نقلناه عن (سيرت.م.أرنولد)عن حقيقة السيد المسيح وطبيعته..

ثم أدخلت مثل هذه المعميات في الشعائر التعبدية.. والمثال الصارخ لها هو مسألة (العشاء الرباني) الذي كان أحد الحالات التي ثار عليها مارتن لوثر وكالفن وزنجلي فيما سمي (بالإصلاح الديني).

ومسألة العشاء الرباني مسألة مستحدثة ما جاء بها (الكتاب المقدس) عندهم، وما تعرض لها النصارى الأولون، ولا (المجامع المقدسة) الأولى.. وقصتها كما يلي:

إن النصارى يأكلون في الفصح خبزاً، ويشربون خمراً، ويسمون ذلك (العشاء الرباني).

وقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك. فمن أكلهما وقد استحالا هذه الاستحالة فقد ادخل المسيح في جسده. بلحمه ودمه...

وقد فرضت الكنيسة على الناس قبول هذا الزعم ومنعتهم من مناقشته. وإلا عرضوا أنفسهم للطرد والحرمان.

ثم لم تكتف الكنيسة بتلك المعميات والخرافات في العقيدة وفي الشعائر-مع كف الناس عن البحث عن أصولها في (الكتاب المقدس) ومحاولة فهمه او تفسيره- بل اتبعتها بأمثالها في الكون والحياة. فادعت آراء ونظريات جغرافية وتاريخية وطبيعية مما كان سائداً في عصرها، مليئة بالخطأ والخرافة عن الكون والحياة والإنسان. وجعلتها (مقدسة) لا تجوز مناقشتها ولا تصحيحها ولا تجربتها، ولا القول بسواها.

وكانت هذه هي القاصمة! لأنها الباطل الذي يسهل على التجربة بيان بطلانه، وكشف زيفه! ولأنها المنطقة التي أطلق الله فيها العقل الإنساني ليرتادها، وهو مزود بكل المؤهلات التي تمكنه من كشفها وتحقيقها، ولم يفرض عليه فيها نظرية معينة!

وفي هذا يقول السيد أبو الحسن الندوي ما يغنينا عن الإعادة، ويصور اثر هذه القاصمة في ذلك (الفصام النكد) تصويراً مختصراً دقيقاً في كتابه القيم " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " :

( .. ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا، ومن اكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه، انهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة، معلومات بشرية، ومسلمات عصرية، عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية، ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني.

( وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فانه لا يؤمن عليه التحول والتعارض. فان العلم الإنساني متدرج مترق فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصراً على كثيب مهيل من الرمل. ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان اكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين فان ذلك كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم، الذي انهزم فيه الدين، ذلك الدين المختلط بعلم البشر، الذي فيه الحق والباطل، والخالص والزائف.. هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده. وشر من ذلك كله وأشأم: أن أوروبا أصبحت لا دينية.

ولم يكتف رجال الدين بما ادخلوه في كتبهم المقدسة، بل درسوا كل ما تناقلته الألسن، واشتهر بين الناس، وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية. وصبغوها صبغة دينية، وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها، ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافيا التي ما انزل الله بها من سلطان: (الجغرافيا المسيحية) (Christian Geography) وعضوا عليها بالنواجذ، وكفروا كل من لم يدن بها.

وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوروبا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني. فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب؛ وأعلنوا اكتشافاتهم واختباراتهم. فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون في زمام الأمور في أوروبا وكفروهم، واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي، وأنشأوا محاكم التفتيش، التي تعاقب-كما يقول البابا-(أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن والبيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول!).. فجدت واجتهدت وسهرت على عملها، واجتهدت ألا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الانفاس، وناقشت عليها الخواطر، حتى يقول عالم نصراني: " لا يمكن لرجل ان يكون مسيحياً ويموت حتف انفه" ( يقصد الموت موتة طبيعية).

( ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلاثمئة ألف. احرق منهم اثنان وثلاثون ألف أحياء! كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو)، نقمت منه الكنيسة آراء من اشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بان لا تراق قطرة من دمه! وكان ذلك يعني أن يحرق حياً! وكذلك كان! وكذلك عوقب العالم الطبيعي الشهير (جاليليو) بالقتل لأنه كان يعتقد  بدوران الأرض حول الشمس!.

( هنالك ثار المجددون المتنورون، وعيل صبرهم، واصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة، والمحافظين على القديم، ومقتوا كل ما يتصل بهم، ويعزى إليهم، من عقيدة، وثقافة، وعلم، وأخلاق، وآداب، وعادوا الدين المسيحي اولاً، والدين المطلق ثانية، واستحالت الحرب بين زعماء الدين المسيحي-وبلفظ اصح الديانة البولسية- حرباً بين العلم والدين مطلقاً! وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وان العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان؛ فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر، ومن آمن بالأول كفر بالثاني. وإذا ذكروا الدين ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة وجباه مقطبة، وعيون ترمي بالشرر، وصدور ضيقة حرجة، وعقول سخيفة بليدة؛ فاشمأزت قلوبهم؛ وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء، وكل ما يمثلونه، وتواصوا به، وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم!

( ولم يكن عند هؤلاء الثائرين من الصبر والمصابرة على الدراسة والتفكير، ومن الوداعة والهدوء، ومن العقل والاجتهاد، ما يميزون به بين الدين، ورجاله المحتكرين لزعامته، ويفرقون به بين ما يرجع إلى الدين من عهدة ومسؤولية. وما يرجع إلى رجال الكنيسة من جمود واستبداد وسوء تمثيل، فلا ينبذوا الدين نبذ النواة.. ولكن الحفيظة وشنآن رجال الدين، والاستعجال.. لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه كغالب الثوار، في أكثر الأعصار والأمصار!!!.)

*     *     *

هذه-باختصار وإجمال شديدين- أهم الملابسات النكدة لذلك (الفصام النكد) الذي تعاني أوروبا-وتعاني معها البشرية كلها اليوم مع الأسف- آثاره التعيسة، وتتجرع كأسه المريرة.

وهذا هو (الدين) الذي ثارت عليه أوروبا.. ثم تابعها في الثورة الببغاوات والقرود في الأرض كلها، دون تفرقة بين دين ودين!

وهذا هو(الدين) الذي ثارت عليه أوروبا.. الدين الذي شوهت معالمه منذ أول خطوة. ثم زيفت خصائصه الربانية، وتصوراته السماوية، وقيمه وأسسه.. ذلك التزييف الشنيع!

هؤلاء هم (رجال الدين) الذين قدموا هذه الجناية على أنفسهم وعلى الدين، وعلى البشرية المنكودة، بقيادة الغرب الموتور من الدين المزيف، ومن رجال الدين المزيفين!

وهي كلها-ولله الحمد- ملابسات (أوروبية) بحتة، وليست إنسانية عالمية-ومتعلقة بنوع معين من (الدين) لا بحقيقة الدين. وخاصة بحقبة من التاريخ خاصة، تملك البشرية أن تتخلص من آثارها التعيسة، حين تفتح أعينها على الحقيقة من وراء دخان المعركة التاريخية!

ولكن هذا الخلاص لن يجيء أبداً عن طريق العقلية الغربية، ولن ينبثق أبداً من هذه العقلية المكبلة بأغلال ذلك التاريخ المرير، وبالرواسب التي خلفتها تلك المعركة التعيسة، وبالموجات التي أطلقتها في الفكر والضمير، وفي الأدب والفن، وفي السياسة والاقتصاد، وفي كل أوضاع الحياة التي قامت على ذلك (الفصام النكد)  بعد ما تعمقت جذوره في تربة الغرب المنكود!







ليست هناك تعليقات: