السبت، 8 مايو 2010

ثقافة الخوف






عندما أراد الله لبني إسرائيل أن يتحرروا من عبودية فرعون وإذلاله وقهره لهم اصطفى لهم إنسان لم يتربى ولم يعيش حياة الذل والقهر التي كانوا يعيشونها حتى بات الذل والجبن طبعا وثقافة ومكون أساسي لشخصيتهم " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) "القصص " فلو رُبي موسى بين بني إسرائيل ربما اعتاد واستمرأ حياة الذل والمهانة التي كان يحياها بني إسرائيل " فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا..." ولربما ما قدر على تحمل أعباء الرسالة وقيادة بني إسرائيل إلى العزة والكرامة التي أرادها الله لورثة الوحي بقية المؤمنين في الأرض في زمانهم .
وكذلك الله سبحانه وتعالى عندما أراد للعالم المستَعبد المقهور تحت سيادة الروم والفرس أن يتحرروا من عبادة البشر والحجر , اصطفى لهم العرب لأنهم لم يكونوا محكومين بقوانين العبودية التي كانت تحكم العالم في هذا الزمان حيث لم يكونوا محتلين ولم يحكمهم ملوك وطواغيت ذلك الزمان .
ولما تحررت الشعوب من ذل العبودية والتبعية والقهر التي كان يمارسها فراعين ذلك الزمان الفرس والروم وخاصة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والراشدين من بعده بدأ مؤشر التحرر والعزة في الانخفاض حتى صرنا الآن في ذيل الأمم وأضعفها بل صرنا فريسة مقبوض عليها بفكي أسد فك الغرب الاستعماري وفك النظم التابعة له والتي نصبها علينا قبل خروجه العسكري.
لاشك أن البيئة لها تأثير كبير في تشكيل نفسية الفرد والمجتمع وعصور القهر الأخيرة التي عشناها سواء قبل خروج المستعمر أو بعده كان لها أثر كبير في أوضاعنا الحالية والمتردية التي هي سبب في تأخرنا وتخلفنا وفقرنا وضعفنا , بل إن عصور الاستبداد التي سبقت الغزو الاستعماري الأخير كان سببا رئيسيا في قابليتنا للاستعمار.
فقد كان الحكم في هذه الفترة بالحديد والنار ولم نستمتع بحياة ديمقراطية سليمة كغيرنا من الشعوب أو كالتي أسسها سلفنا الصالح من الخلفاء الراشدين ومارست الحكومات المتعاقبة كافة أشكال القهر والإذلال لكل من عارض سياستها الظالمة حتى استمرأنا واعتدنا حياة الذل والقهر والمهانة وأنشأت فينا القابلية للاستعمار حتى صار الاستبداد جزء أساسي من مكونات ثقافتنا وجرت على ألسنتنا أمثلة تعكس حقيقة نفسية وثقافة مجتمعنا البائس المغلوب على أمره منها " من خاف سلم " أو " يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم " أو " يا بخت من قدر وعفي " كذلك المثل القائل " إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي " وهذه الأمثلة بالرغم أن لها استعمال صحيح في مواضع خاصة إلا أنها في ثقافتنا نلاحظ أنها تقال في غير موضعها ويستشهد بها لتبرير التقاعس عن طلب الحق من صاحب قوة أو سلطان أو للتهاون بالأخذ على يد الظالم القوي وهي تعكس حالة الخوف والسلبية التي انتابت مجتمعنا في عصور القهر و الاستبداد السياسي التي مر بها مجتمعنا عبر سنين عديدة مرت أثرت على شخصية المسلم وجعلت الخوف من ذوي السلطان ثقافة مشهورة وبالرغم من أنها ثقافة سلبية إلا إن المجتمع لا يتحرج من إظهارها أو التمسك بها بل و تحريض الغير عليها .
وانتشار هذه الأمثلة على الألسن أيضا تعكس حالة غياب القيم الإسلامية النبيلة من حياتنا الاجتماعية ما أحوجنا لنحييها في مجتمعنا .
وبالرغم من الصحوة الإسلامية وكذلك انتشار الفضائيات الإسلامية ودعاتها ـ وكان لهم فضل في نشر كثير من الفضائل الإسلامية ـ إلا أن فضيلة الشجاعة مازالت مفتقدة في شخصية المسلم ولعل ذلك ناتج من أن بعض الدعاة أصلا يفتقدون الشجاعة ويجعلون لهم خطوط حمراء أكثر من المساحة المتاحة من الحرية والشجاعة التي يتمتع بها رجل الشارع العادي وبعض الصحفيين والنشطاء في مجال السياسة وحقوق الإنسان على مختلف تياراتهم الفكرية .
وبالرغم أن تعاليم ديننا العظيم تحث المسلم على التحلي بالشجاعة والشهامة والانتصار للحق مهما كانت تكاليفه, والشجاعة الإنتصار للحق وعقاب الظالم هي في الأصل فطرة فطر الله تعالى الناس عليها ولهذا جاءت الآيات والأحاديث موافقة للفطرة وقد فاضت بالحث على الشجاعة والانتصار للحق , فالإسلام يجعل من صفات المؤمنين أنهم إذا ظُلموا أو ضُربوا أو قوتلوا أنهم يثأرون لأنفسهم وذلك في قوله تعالى " وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ " (39)الشورى ثم أن الله يشجع المسلم ألا يبات مظلوما لأنه مؤيد بنصر الله في قوله تعالى " ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ"(60)الحج والآية الآتية تمدح الذين ينتصرون لحقوقهم " إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ "(227)الشعراء .
وشن حملة على من يتبع الظالمين ولعن من يسير ورائهم " وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ "(60) بل وجعلهم من الفاسقين " فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ "(54)الزخرف .
والرسول صلى الله عليه وسلم يفصل ويشرح ويؤكد على هذه المعاني ويجعل الموت من أجل الدفاع عن المال أو العرض أو الدين أو النفس شهادة وهذا قمة التحريض على الشجاعة والإقدام, وذلك في قوله " من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد "رواه أحمد
ويجعل قول الحق للطغاة وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أفضل الجهاد
عن أبي سعيد الخدري؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أفضل الجهاد، كلمة عدل عند سلطان جائر)).رواه بن ماجة والترمذي وأحمد بألفاظ مختلفة
ويستعيذ من الجبن ويجعله من شر ما يوصف به الرجل أبا هريرة يقول:
سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:
"شرُّ ما في رجلٍ شحٌّ هالعٌ وجبنٌ خالعٌ ".رواه أبو داود
لاشك أن هذه من سنن نبينا صلى الله عليه وسلم ولكنها غائبة عن خطابنا الدعوي وقليلا ما تذكر بالرغم من حاجتنا الملحة لقيمة جهاد الطغاة بالكلمة والموقف
ومن مواقف سلفنا الصالح في الشجاعة والجرأة على قول الحق موقف عمر عندما خطب المسلمين فقال إن اعوججت فقوموني فقام رجل من المسلمين فقال والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا , وعندما أراد أن يحدد قدرا معينا من المهور للنساء فقالت له امرأة اما سمعت قوله تعالى "... وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ..." فقال أصابت امرأة وأخطأ عمر, وروي عن سعيد بن المسيب التابعي الجليل أنه دعي للبيعة للوليد وسليمان بعد عبد الملك بن مروان،" قال: فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار، قال: فقيل: أدخل من الباب وأخرج من الباب الآخر، قال: والله لا , فيقتدي بي أحد من الناس " وروى لنا التاريخ عن سعيد بن جبير حين سأله الحجاج عن رأيه فيه فقال له غير خائف ولا راغب " ظالم، تلقى الله بدماء المسلمين.فقال الحجاج: علي بالذهب والفضة، فأتوا بكيسين من الذهب والفضة، وأفرغوهما بين يدي سعيد بن جبير .قال سعيد: ما هذا يا حجاج؟ إن كنت جمعته، لتتقي به من غضب الله، فنعمّا صنعت، وإن كنت جمعته من أموال الفقراء كبراً وعتوّاً، فوالذي نفسي بيده، الفزعة في يوم العرض الأكبر تذهل كل مرضعة عما أرضعت. أليس هذا فهم سلفنا الصالح لهذا الدين.
لكن الاجتزاء من الدين والتبعيض والانتقاء من الأحاديث ومن أقوال السلف ونسيان حظا مما ذكرنا به هو الذي ضيع قيمة ديننا وشموله وبيانه لكل شيء وهذا الذي أعجزنا عن بلوغ العزة والنصر والتمكين لهذا الدين وإقامته في سائر مجالات الحياة التعبدية والخلقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية فضلا عن عجزنا عن قهر الطغاة.

ليست هناك تعليقات: