الأربعاء، 2 ديسمبر 2009

هكذا تساءل بيجوفيتش

محمد يوسف عدس :
(1)
فى هذا المقال نحاول أن نفر إلى الحرية مع بيجوفيتش: نفر من عار الأوضاع العربية المتردية .. والمعارك الصحافية والإعلامية المختلقة .. والأساليب الهابطة التى تعالج بها قضايا جادة .. والحروب الكلامية السفيهة الى فقدت عقلها ومنطقها .. والمحاولات الخبيثة والغبية (أيضا) التى تحاول صرف الناس وعواطفهم عن القضايا الحقيقية وعن الأعداء الحقيقيين لهذه الأمة بخلق أعداء وهميين: حماس وحزب الله وإيران الصفوية [الأنوية كما يقول يوسف بك وهبى فى فيلم كوميدى] لتصرف النظر عن حصار غزة ومأساة فلسطين المتفاقمة .. وماساة السودان التى ينفرط عقدها .. والأمن القومي الذى يتمزق سياجه وتنهار جدرانه من أقصى جنوبه إلى أقصى شرقه .. من السودان ومنابع النيل و الصومال حتى سيناء وفلسطين .. محاولات خبيثة وغبية أيضا لصرف الأذهان عن الكارثة الإقصادية التى تأخذ طريقها حثيثا إلى قلب الأمة .. وعن قضايا التوريث وتأبيد السلطة ونهب الثروة .. والفساد السياسي والأخلاقي والإجتماعي .. الذى يفتت نسيج الأمة .. ويضعفها أمام مطامع الأعداء وخططهم .. هذه هى القضايا الحقيقية والمعارك الحقيقية التى ينبغى أن تحتشد لها الأمة كلها بالفهم والعقل والإرادة الواعية .. بدلا من ذلك كله نخوض الأمة بكل أجهزتها الإعلامية والسياسية والدبلماسية حربا شاملة على رجل إسمه الشيخ نصر الله.. فيا لها من سفاهة وياله من صغار ...!! ومع كل ذلك أقول لكم : سينتهى كل شيئ إلى لا شيئ .. إلى هباء ..!! مثل كل معاركنا الوهمية السابقة والاحقة .. سنفشل دائما كما فشلنا من قبل .. وسيأتى رغما عنا وعن قادتنا و عن وزير خارجيتنا .. سيأتى ليبرمان وزير خارجية إسرائيل ليشهد آخر مشهد فى المسرحية العبثية .. مشهد القطيع وهو يصطف فى طابور طويل من الإسكندرية إلى أسوان ليعلن بيعته وولاءه للطاغية الجديد ...!

(2)
يتساءل بيجوفيتش: هل الإسلام هو سبب تخلّف المسلمين ..!!؟؟
وأسأل أنا: ما أهمية هذا السؤال حتى يُعنى على عزت بيجوفيتش بطرحه ويحاول الإجابة عليه فى مقال طويل مفصّـل ..!؟ وإجابتى ألخّصها فيما يلى: الدين فى الثقافة الغربية السائدة وعند فريق من المثقفين أو أدعياء الثقافة عندنا وأقصد بهم الذين تعلموا فى الغرب أو تأثروا بثقافته وبهرتهم حضارته‘ له مفهوم ثابت فى عقولهم وله سمعة سيئة وتاريخ سيئ فى العقل الغربي: أنه ضد الحضارة وضد التقدم العلمي والتكنولوجي .. وأن الحضارة الغربية لم يكن لها لتبدأ لولا أن ثار عليه الغربيون وأزاحوه من حياتهم العامة.. وتمكّنوا من فصله عن السياسة وعزله بين جدران الكنيسة .. كان الإقطاع المستبد والمؤسسة الدينية الكاثوليكة صنوان .. فى إستغلال البشر و التحكم فى عقولهم .. وفرض منظومات فكرية وعقائدية على الإنسان رغم إرادته .. وكانت المؤسسة الدينية دائما حجر عثرة فى سبيل أى تقدم علمي .. فقد كانت محاكم التفتيش تعاقب الطبيب الذى يمارس الجراحة مثلا بالقتل .. إنتهى العلم فى الكنيسة عند ما خلّفه أرسطو .. وأصبح كلام أرسطو جزءّا من الدين مقدسًا .. يعاقب من يخرج عليه .. وكاد جاليليو أن يعاقب بالحرق لأنه قال (خلافا) لرأي الكنيسة: أن الأرض كروية .. لولا تراجعه واعتذاره .. وكانت الكنيسة تحرّم الكتابة والتأليف فى أى علم من العلوم وتصادر الكتب وتحرقها .. وقد جعلت لهذه الكتب المصادرة والمحرمة سجلا فى الكنيسة مشهورا فى التاريخ باسم كودكس CODEX .. وهكذا إرتبط الدين فى العقل الغربي بالتخلف والإستبداد والقهر وبممارسات التعذيب البشعة التى كانت تقوم بها محاكم التفتيش الكنسية على المخالفين فى العقيدة وتصمهم بالهرطقة الدينية .. وتحرض عليهم السلطة والجماهير لقتلهم والتمثيل بجثثهم .. لا قتل المخالفين فى الدين فقط كما فعلت فى أسبانيا مع المسلمين واليهود ولكن مع المسيحيين التابعين لكنائس أخرى كالبروتستانت وغيرهم .. وهكذا إستقر الفكر الغربي على إستبعاد الدين وحصره فى مجموعة من الشعائر تمارس فى الكنائس فقط .. وأصبح فصل الدين عن السياسة شعارا بل دينا جديدا يلقّنونه لأبنائهم فى المدارس .. وظهرت المؤسسة العلمانية للمحافظة على هذا الدين الجديد والترويج له .. والدفاع عنه بقوة وشراسة ...
النموذج الأكبر لهذه العلمانية الشاملة فى عالم المسلمين تجده بارزا صادما فى إنقلاب أتاتورك على الإسلام فى تركيا .. وفى الجيش التركي الذى لا يزال قائما على رعاية تراث أتاتورك المقدس .. قائما على حماية العلمانية .. وفقا لأحكام الدستور التركي .. لقد أعتبر الحجاب الإسلامي خطرا على العلمانية لدرجة سمحت للسلطات العلمانية المستندة إلى قوة الجيش القمعية بطرد نائبة منتخبة من قبل الشعب لأنها محجّبة .. ومنعت تحجب النساء فى الجامعات وفى الوظائف العامة .. ولم تجد السلطات العلمانية فى ذلك ذرة من المخالفة لقوانين حقوق الإنسان المعمول بها حتى فى بعض الدول العلمانية المعتدلة فى الغرب .. أما نحن فمقلدون متخلفون عن أتاتورك إذ بدأنا بعد مايقرب من القرن نحاول تحريم الحجاب على طالبات المدارس .. ونحرم الحجاب والنقاب بين الممرضات فى المستشفيات .. وتابع أخبار الوزيرة الشابة فى مشروعاتها الجديدة لتغيير قوانين الأحوال الشخصية ...
على كل حال .. هذه هى الخلفية التاريخية والفكرية التى أخذها بيجوفيتش فى اعتباره وهو يطرح فى هذه المقالة سؤاله: هل الإسلام هو سبب تخلّف المسلمين ..؟؟ تلاحظ هنا أننا أمام سؤالين لا سؤال واحد .. ومنطوقهما هو: (1) هل المسلمون متخلفون ..؟؟ (2) هل الإسلام هو سبب تخلّفهم ..؟؟ بيجوفيتش لا يجيب على السؤال الأول لأنه من سياق كلامه نفهم أنه يسلّم بتخلف المسلمين .. فهذا هو المشهد الذى يراه ويؤكد وجوده فى عالم المسلمين اليوم .. أما السؤال الثانى فهو لب القضية التى يحاول بيجوفيتش معالجتها فى هذا المقال ...

(3)
فى هذا المقال والمقالات الأخرى التى سطرها بيجوفيتش فى ستينات القرن الماضى نلاحظ أنه يكتب كعادته بلغة منطقها قوي.. ولكن كلماتها تكاد تتوهج من حرارة مشاعره .. يفعل ذلك وهو يمزّق الأستار الكثيفة فى محاولة للكشف عن أسباب الهزائم التاريخية التى لحقت بالشعوب المسلمة .. وليضع يده على أسباب التخلّف الذى يكبّل خطواتها ويعوقها عن الإنطلاق .. إنه يمسك بتلابيب الأوضاع المأساوية التى يرزح تحتها عقل هذه الأمة وروحها التى أنهكتها الأخطاء المتكررة والمتراكمة عبر السنين .. يقصد بتحليلاته النافذة تشخيص المرض تشخيصا صحيحا .. وتحديد معوقات النهضة .. ثم يرسم الطريق للخروج من هذا المأزق التاريخي لتنهض الأمة من كبوتها وتنطلق فى طريقها الصحيح .. معنى هذا أن بيجوفيتش رغم إدراكه لفداحة الهزائم التى مُنيَتْ بها الأمة لم يفقد للحظة واحدة طموحه فى أن تنفض الأمة عن نفسها ركام التخلف وتكسر كل قيودها لتنطلق فى طريق النهضة ..
كان بيجوفيتش يتطلع فى يوم من الأيام أن تنهض دولة إسلاميه كبيرة مثل باكستان أو مصر .. لأن وجود هذه الدولة القوية من ِشأنه أن يدعّم الدول الصغيرة والأقليات المسلمة المنتشرة فى العالم .. وأن يردع أعداءها عن محاولة إقتنا صهم وقهرهم .. أو إبادتهم كما حاول الصرب فى عدوانهم على كل من البوسنة وكوسوفا .. ولكننا نرى فى كتاباته وتحليلاته المبكرة أن باكستان التى خطط لها مؤسّسوها أن تكون الدولة الإسلامية النموذج قد بلغت من الإضطراب والانحراف عن رسالتها إلى درجة جعلتها عاجزة عن أن تقوم بأى دور فعّال ذى قيمة سواء فى داخلها أو خارجها .. إنها حتى لم تستطع أن تحتفظ بجناحها الشرقى بل إنفصل عنها فى إنقلاب دمويّ دعّمته الهند بالسلاح والمؤامرة .. وتشكّلت فيه دولة جديدة أسمها (بنجلادِش) .. واسعة الأرجاء نعم .. ولكن شديدة الضعف .. شديدة الفقر .. مبتلاة بالتّخلّف والفياضانات .. والإضطرابات السياسية، شأنها فى ذلك شأن أختها فى الجناح الغربي ...
من ضمن ما وجّهه بيجوفيتش إلى باكستان من نقد فى ذلك الوقت (اعنى فى بداية إنشائها فى النصف الثانى من أربعينات القرن العشرين) أن قياداتها الدينية وفقهاءها شغلوا أنفسهم بقضية تافهة ركّزوا عليها فاستنفذت طاقاتهم وهى: [ هل نبدأ فى تنفيذ أحكام الشريعة بقطع يد السارق ام نرجئ هذا الحكم حتى يتم تربية الناس على قبول الأحكام الشرعية بنفس راضية ..؟] وبينما كان رجال الدين يتعاركون على تنفيذ حكم الشريعة فى السرقات التافهة كانت البلاد فى نفس الوقت يتم نهبها على نطاق واسع .. وتُسرق الملايين من أموال الشعب بواسطة قياداتها السياسية .. كان بيجوفيتش ثاقب النظر فى رأيه ونقده.. فلا تزال باكستان حتى اليوم تعانى من نفس المشكلات المزمنة والإنشقاقات المتواصلة .. والقيادات السياسية المتنازعة على نهب البلاد .. والإنقلابات العسكرية المتلاحقة التى قد تجد مساندة وقتية من الجماهير اليائسة من النخب السياسية الفاسدة .. التى لا هم لها إلا الوصول إلى السلطة بكل الوسائل مشروعة كانت أوغيرمشروعة ...
كذلك قدّر بيجوفيتش أن مصر بإمكاناتها البشرية والعلمية والتعليمية ومركزها بين الدول، وبتاريخها فى صد العدوان المغولى والصليبي يمكن أن تتولى دور الراعى للدول الإسلامية الصغيرة .. ولكن خاب أمله فيها أيضا فقد نأت بنفسها عن كارثة التطهير العرقيّ التى قامت بها القوات الصربية ضد الشعبين المسلمين فى البوسنة وفى كوسوفا .. و عندما جاء بيجوفيتش إلى مصر سنة 1994 ليعرض قضية شعبه العادلة على القيادة السياسية فيها لم يحظ بلقاء رئيس الدولة .. ولم تتح له الدولة أن يخاطب جماهير الشعب المصري عبر وسائل إلإعلام التى كانت كلها حكرا تملكه الحكومة وحدها .. ولولا الدكتور عبد الوهاب المسيري الذى رتّب له لقاء مع مجموعة من كبار المثقفين فى القاهرة لخرج الرجل من مصر بخٌفّي حُنين ...
(4)
يؤكد بيجوفيتش أن حالة التخلف التى أصابت العالم المسلم الممتدّ على منطقة شاسعة من جبل طارق غربا إلى إندونيسيا شرقا ليست حالة بسيطة ولا طارئة وإنما هى شديدة التعقيد عميقة الجذور .. إنها حالة من الركود والسُُُّبات العميق جعلت بعض المؤرخين الغربيين يعتبرونها ظاهرة ويطلقون عليها ( ليل الإسلام أو غروب الإسلام ) ويعتقدون أنها بدأت مع الإستعمار الإنجليزي للهند وامتدت إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكن بيجوفيتش يرى أن جذورهذه الحالة وبداية أسبابها الحقيقية تعود إلى ما هو أبعد من ذلك ، كما أن آثارها مازالت قائمة إلى درجة كبيرة حتى يومنا هذ ا...
يقول بيجوفيتش: إن أسباب نهضة أمة ما أو انحطاطها تكون دائما معقدة ومتعددة الأبعاد، يخضع جانب منها للإدراك والتحليل والمنطق وهو الجانب المتعلق بالأسباب الموضوعية ، بينما يظل جانبها الآخر خافيا غير خاضع للإدراك أو التحليل أو المنطق .. ذلك لأنه جانب يكمن فى قلوب البشر وإراداتهم .. وإن الإنسان ليتساءل هنا ماهى هذه الأسباب الكامنة التى جعلت ينابيع الحياة والإرادة والعلوم تنبثق فى أرض مصر القديمة و فى اليونان وروما والجزيرة العربية والهند والصين والمكسيك ...؟ ثم فى أوربا وأمريكا .. كما نشهد اليوم ..؟ فى الوقت الذى تعيش فيه وتموت أجيال لا حصر لها من (الفلاحين) .. فى مناطق شاسعة خارج هذا النطاق الأول تكرر نفسها .. أمسها كغدها .. وكل يوم يمر عليها مثل كل يوم آخر.. كأنها تدور فى حلقة مفرغة، لتستقر فى مجاهل التاريخ ..؟؟
ينتقل بيجوفيتش إلى استفسار آخر يتكامل مع إستفساره السابق فيتساءل: ما هو السبب الذى يجعل شعبا يكتشف هويته فجأة فتدب فى كيانه روح النشاط والحركة وتتحول أرضه إلى حاضنة لأجيال من العمالقة والشجعان .. والرجال الأجِلاّء وفطاحل الشعراء ، بينما تظل شعوب أخرى تطلع عليهم الشمس نفسها وتغرب .. ويعيشون فى ظروف مشابهة ، ومع ذلك تبدو حياتهم راكدة آسنة كانها تغوص فى مستنقع لا قاع له ...!ا؟
وتعليقا على هذه الأوضاع يدور كلام المعلقين والشارحين دائما لتوضيح الأمور والأسباب على هذا النحو: "إن العلة فى ذلك تعزى الى الحكام والمؤسسات والظروف الأقتصادية وأمية الشعوب ، وما شابه ذلك .. ويقول آخرون: إن الشعوب غير متعلمة ، ولذلك تحتمل طغيان الحكام ؛ وهؤلاء الحكام أنانيون ، ولذلك لا يعملون على تعليم شعوبهم .. ويقول آخرون: إن المؤسسات التعليمية إنما هى انعكاس مباشر لمستوى المجتمع الثقافى .. ويعترض آخرون بقولهم إن حالة التدهور فى التعليم وتخلّفه يرجع إلى تحكّم النظام القائم عليه .. ! إذن فأين السبب وأين النتيجة ..؟ "
(5)
يقول بيجوفيتش: إن علم التاريخ ليس علما من العلوم التطبيقية ، كالرياضيات مثلا . ولاشك أن للتاريخ قواعد وقوانين ، ولكنها ليست من نوع قواعد العلوم الطبيعية التى تضمن لنا صحة افتراض ما .. إن قواعد التاريخ لا تمنحنا القدرة على أن نتوقع حدوث وقائع بعينها ترتيبا على معرفتنا بمقدمات سابقة ، أو تضمن لنا صحة تحليلاتنا لما قد جرى فعلاً من أحداث .. إن التاريخ قصة حياة ، والحياة فى جوهرها إنبثاق للحرية والعفوية وعدم الخضوع للتوقعات .. لذلك يظل التعريف الحقيقى للحياة سرا . . ومن ثم لن تقوم – ولا يمكن أن تقوم – إجابة [علمية محددة] عن سؤال : ما سبب تخلف أمة ما ...؟
يحدد بيجوفتش فى هذه النقطة غرضه من هذه المقالة فيقول أنه ليس بصدد بحث أو إحصاء أسباب تخلف الشعوب الأسلامية كلها ، ولكنه سيعرض لسببين إثنين يبرزان أكثر من غيرهما فى تاريخ الأمة الإسلامية : الأول خارجى وهو هجوم المغول على العالم الإسلامى ؛ والأخر داخلى وهو التفسير الدينى المحض للأسلام .. وهو يعتقد أن الوعى الإنساني ما زال غير قادر على أن يدرك إلى الآن عمق الآثار المدمرة لكارثة الاجتياح المغولى ، مهما كتبنا وتحدثنا عنها ...! لقد تم تدمير مئات المدن وكل ما صنعته يد الأنسان فى مساحة مترامية الأطراف .. فى أكثر المناطق الحيوية بالنسبة للإسلام ، حدث هذا بشكل لا مثيل له فى تاريخ البشرية القديم أوالحديث...! وإنه لمن قبيل المعجزات أن تنهض من جديد تلك الشعوب التى اجتاحتها جيوش المغول وأفنت بعضها عن أخره ... ؟
ومن جانب أخر كان التفسير الدينى المحض للإسلام ، الذى حصر الإسلام فى دائرة رسالة دينية ، مهملا أومنكرا دوره فى تنظيم وتغيير العالم الخارجى، عامل إضعاف داخلى لقوة ومناعة الأمة الأسلامية ، وجعلها غنيمة سهلة للجيوش البربرية ...ربما تحتاج هذه النقطة من فكر بيجوفيتش إلى بعض الإضاءة ..
أحب هنا أن انبّه فقط إلى مفهوم بيجوفيتش الأساسي الذى أقام عليه فلسفته الإسلامية وهو [ أن الإسلام وحدة ثُنائية القطب] .. هو ليس دينا مجردا كما يفهمه الغربيون .. فمصطلح [ دين] عندهم لا يعنى أكثر من أنه تجربة فردية أو علاقة شخصية بالله .. هى علاقة تعبّر عن نفسها فقط فى مجموعة من المعتقدات والشعائر يؤديها الفرد وحده أو فى جماعة من نًظرائه بمعبد أوكنيسة .. وخارج هذا النطاق تخضع حياته كلها وسلوكه لقانون آخر وقيم أخرى لا علاقة لها بهذا الدين الذى يعتنقه أويمارس شعائره .. والإسلام ليس هكذا .. ليس دينا بهذا المعنى .. الإسلام أكثر من مجرد دين أو بتعبير بيجوفيتش المحدد ليس[ دينا مجردا ] لأنه يحتوى الحياة كلها ..( ليس جزءّا من الحياة ولا جزءا من الثقافة) كما يحلو لبعض المثقفين العلمانيين والملحدين عندما يتفضلون على مستمعيهم أو قُرّاءهم للإيهام بأنهم لا يستبعدون الدين كلّية من الحياة أو المجتمع .. المسلم صحيح الإيمان يصحبه دينه فى كل لحظة من لحظات حياته منذ استيقاظه فى الصباح حتى يأوى إلى فراشه فى المساء .. الإسلام مع المسلم فى كل موقف يتخذه من الناس ومن الأحداث .. لايستطيع أن يقف ساكنا ويقول مالى وما للآخرين .. إذا كان الموقف يتطلب المعونة فهو مسئول عن تقديمها .. وإذا كان الموقف يدعو إلى نصرة المظلوم وكف يد الظالم فهو مسئول .. وإذا كان الموقف موقف إسترداد حق مغصوب اوعدالة مفقودة فهو مسئول .. ولا يصح أن يبيت المسلم شبعانا ويبيت جاره يتضوّر جوعا .. نظرة الإسلام شاملة .. والعبادة فى الإسلام تمتد على نطاق واسع سعة الحياة نفسها .. ليست عبادة الله قاصرة على أداء الشعائر فى المسجد .. وفى خارج المسجد شأن آخر .. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى .. ومن لا تنهه صلاته فلا صلاة له .. والأمر لا يختلف فى كل الفرائض الإسلامية .. فمن لم ينهه الصوم عن قول الزور فلا صوم له .. وكذلك الحج والزكاة .. لا بد فيهما من إخلاص النية لله والحذر من الرياء والمنّ .. وحديث الهجرة يردده حميع المسلمين ( ... ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إمرأة ينكحها فهجرته إلى ماهاجر إليه ) .. الغربي المسيحي تنتهى علاقته بالله وبدينه عندما يترك الكنيسة ويخرج إلى الشارع .. فهنا عالم الصراع والتنافس والمصالح .. ولا بأس من إستخدام الأساليب المكيافيلية طالما أنك لا تقع تحت طائلة القانون .. وفى هذين الموقفين المتعارضين يتجلى الإختلاف بين الإسلام وبين الدين المجرد .. ولذلك يؤكد بيجوفيتش على أنه من الناحية النظرية هناك ثلاث وجهات أساسية من النظر (متكاملة) عن العالم هى: " النظرة الدينية والنظرة المادية والنظرة الإسلامية " تتمثل على التوالى فى: المسيحية والمادية والإسلام .. وستجد أن جميع الأيديولوجيات والفلسفات والتعاليم العقائدية من أقدم العصور إلى اليوم فى التحليل النهائي يمكن إرجاعها إلى واحدة من هذه النظرات الثلاثة العالمية الأساسية .. تأخذ الأولى نقطة بدايتها وجود الروح ، وتأخذ الثانية وجود المادة، والثالثة الوجود المتزامن والمزدوج للروح والمادة معا .. والإسلام هو الذى يُطلق على الوحدة بين الروح والمادة، وهو الصيغة الأسمى للإنسان نفسه .. وهذا هو معنى (الوحدة ثُنائية القطب).. فالثُّنائية هنا ليس معناها الإزدواجية .. لأن الإزدواجية تقتضى أن يقف عنصرا الروح والمادة كل منهما منفردا منعزلا عن الآخر .. ولكننا نرى وجود العنصرين فى الإنسان وجودا متكاملا متفاعلا .. فى الإنسان رغباته وحاجاته المادية وهو هو نفسه فيه أشواقه وتطلّعاته الروحية .. ولا يمكن أن يستغني عن إشباع هذين الجانبين المتعارضين معا .. ولايمكن أن يستغني بإشباع جانب على حساب الجانب الآخر .. ولذلك يقول بيجوفيتش:إن الحياة الإنسانية تكتمل فقط عندما تشتمل على كل من الرغبات الحسية والأشواق الروحية للكائن البشريّ .. وأن كل الإخفاقات والمآسى الإنسانية ترجع إلى إنكار الدين للإحتياجات البيولوجية الحيوية للإنسان .. أو لإنكار المذهب الماديّ لتطلّعات الإنسان الروحية .. والسؤال عند بيجوفيتش ليس هو ما إذا كنا نحيا (حياتين) معا ..؟ فذلك أمر مفروغ منه .. ولكن السؤال الحقيقي هو ما إذا كنا نفعل ذلك فاهمين لحقيقة مانفعل !!؟ ففى هذا يكمن المعنى النهائيّ للإسلام ...! الحياة بحكم تركيبتها الإلَهية فيها ثنائيتها .. وقد أصبح من المستحيل عمليا أن يحيا الإنسان حياة واحدة منذ اللحظة التى توقّف فيها أن يكون نباتا أو حيوانا .. منذ اللحظة الفارقة التى يصفها بيجوفيتش بالدراما الكونية التى أشهد الله فيها ذرية آدم على أنفسهم وأخذ منهم ميثاقهم .. يصور هذا المشهد الآية 172من سورة الأعراف .. يقول فيها الرب عز وجل: { وإذ أخذ ربُّك من بنى آدم من ظهورِهم ذُرّيتهم ، وأشهدهم على أنفسهم: ألَسْتُ بربكم ، قالوا بـلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} .. فى هذه اللحظة الفارقة " أُلقِيَ بالإنسان فى هذا العالم .. مزودا بالحرية والمسئولية معا .. مزوّدا بجموعة من المعايير الأخلاقية الخالدة ليميز بها الخبيث من الطيب .. نزل إلى هذا العالم وفى أذنيه دويّ كونيٌّ هائل : { يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحـًا فملاقيه...}
إذا فُُهِمَتْ هذه الجزئية من فكر على عزت بيجوفيتش وأعنى بها فكرته المركزية عن الإسلام باعتباره [ وحدة ثنائية القطب ] وليس دينا مجردا .. وأنه عندما يذكر مصطلح دين دون ذكر للإسلام فإنه يعنى به الدين كما يفهمه الغربيون [الدين المجرد] الذى يستحيل أن يشمل الإسلام ولا أن يساويه أو يتوازى معه .. إذا فهمت هذه الجزئية وأخذتها فى إعتبارك وأنت تقرأ له فقد استطعت أن تمسك بمفتاح فكر هذا المفكر الإسلامى العظيم .. أواستطعت أن تقطع نصف الطريق إلى فكره ...

(6)
إذا رجعنا إلى الهدف الأصلى من هذا المقال ، وهو محاولة استخلاص الأجابة عن سؤال بيجوفيتش: هل الأسلام [ باعتباره دينا وفكرا ونمط حياة لملايين البشر الذين يُسمّوْن بالمسلمين] هوسبب تخلفهم ...! ؟
يقول بيجوفيتش: هناك حقيقة لا يجب أن يمارى فيها أحد وهى أن الشعوب الإسلامية لم تكن متخلفة فى الماضى فى الوقت الذىكانت فيه ملتزمة بالإسلام .. ولكنها اليوم معتبرة بين الشعوب المتخلفة ، ولكنها لا تتبع الأسلام بالمفهوم العملى الصحيح .. والتاريخ شاهدى على ما قلته فى الشق الأول ، وأنا وأنتم ونحن جميعا شهود على الشق الثانى الذى نراه اليوم ماثلا أمام أعيننا ...!
إن الأسلام مجموعة تعاليم حواها القرآن الكريم والحديث الشريف والمصادر الأخرى المعروفة . ولكن الأسلام عنوان لظاهرة تاريخية فى العالم الواقعى ، وعنوان للحركة التى أقامت نظاما للقضاء وأنشأت المدن والدول والحضارات .. إن الأسلام سواء اعتبرناه رسالة أو إعتبرناه ظاهرة تاريخية ، ليرفض بكل قوة الركود والتخلف ...
ولنتذكر أن الاسلام قد أُتُّهم من خصومه على مرّ التاريخ بأنه "دين السيف" .. ودين أولئك الذين لا يخشعون حتى فى صلاتهم .. وأن هدفه هو السيطرة على العالم ، وليس تهيئة الإنسانية للمملكة الإلهية .. و أن الصوم فى الأسلام أقرب إلى نظام صارم منه إلى الزهد والخشوع .. وأنه دين أختلطت فيه القسوة بالرأفة والعبادة بالانغماس فى ملاذ الدنيا..!
هذا الهجوم بغض النظر عن بواعثه ، فيه جانب من الحق .. لأن الأسلام يسعى دائما إلى تحقيق عالمين : عالم جُوّاني وعالم برّاني ، عالم أخلاقى و عالم تاريخى ، عالم هذه الدنيا وعالم الآخرة ... لذلك يمكن تعريف الإسلام بهذه الثنائية التى هى خصيصته الأساسية والتى يتفرّد بها دون سائر الأديان .. إنه يطالب بالامتثال لله وللعمل الصالح ، ولكن رسالته الكبرىتتمثّل فى مجابهة الشر والبغى والإستبداد والظلم والأعداء والأمراض والقذارة والخرافة .. ويمكن تلخيص هذه الرسالة بكلمة واحدة هى الجهاد .. ولذلك ليس غريبا أن يرى المفكر الفرنسي جاك ريسلر إلى أن الأسلام بُنى على ستة أركان – وليس على خمسة فقط –حيث يضيف الجهاد [لا حظ أن هذا تعليق ريسلر معبرا عن إنبهاره بالإسلام، وليس كلام بيجوفيتش] ...
يتابع بيجوفيتش الفكرة فيقول: لاشك فى أن أوثق من فسر روح الأسلام هم المسلمون فى القرون المضيئة .. وستوضح الحقائق التى سنعرض لها أن المسلمين قد أدركوا أن الإسلام يفرض عليهم تحرير العالم وتغييره ، وأنه ليس دعوة إلى الإستسلام للواقع وللمصير ...
ظهر الإسلام سنة 610 بين قبائل جاهلية بعيدا عن حواضرالشعوب التى كانت تملك الحضارات القائمة آنذاك ، وانتقل النبى ( صلى الله عليه وسلم) إلى الرفيق الأعلى سنة 632م، ولكن بعد مرور مائة سنة فقط كانت الجيوش الإسلامية تقف على أسوار باريس فى معركة بويتير سنة 732م .. فلنتأمل بركان الحياة الإسلامية الذى تفجّر ولننظر إلى ما جرى فى هذه الوثبة العملاقة التى حدثت فى غضون مائة عام فقط ...
لقد إنبثقت حضارة كاملة مغايرة لكل الحضارات التى عرفها العالم قبل الإسلام .. و استطاعت أن تضع أسسها المتفرّدة على مدى مائة عام .. إتسمت بالحركة الدؤوب والهدم والبناء ، وتم احتواء شعوب متحضرة كاملة فى هذه الرقعة الشاسعة بقوة الدين والعلم فقط .. وليس بقوة السيف كما يفترى المفترون ... ! فُتحت سوريا سنة 634م وفُتحت دمشق 635م وفتحت الهند ومصر سنة 641م وقرطاجنة 647م وسمرقند سنة 676م والأندلس سنة 710م ، وتوقفت الجيوش الأسلامية فى فرنسا سنة 720م .. ووصل الدعاة المسلمون إلى الصين سنة 629م .. وسلموا رسالة الخليفة إلى القيصر (تاىشونغ)، وحصلوا منه على إذن بنشر الإسلام فى بلاده ، ثم أقاموا مسجدا فى مقاطعة كانتون مازال قائما للآن‘ وهو يُعدّ أقدم مسجد فى هذا الجزء من العالم ...
هذه النهضة المتفجِّرة كانت بمثابة عملية تحرير هائلة للقدرات البشرية لم يحدث مثلها ولا قريبا منها فى أى بقعة من العالم .. يصفها الفيلسوف شْبنجلر بأنها سوف تظل فريدة من نوعها فى تاريخ البشرية .. ويقول عنها "هـ. ج. ويلز H.G. Wels فى كتابه تاريخ العالم: "هزمت البحرية الأسلامية بحرية البيزنطيين فى معركة قرب اللاذقية سنة 655م، ويظل إلى الأن غير واضح من أين حصل العرب على تلك السفن... ؟" ويحاصر معاوية ابن أبى سفيان مدينة القسطنطينية سنة 662و667م ، بينما تمتد الخلافة الأسلامية فى عهد الخليفة عبد الملك وابنه الوليد (685م-715م) من جبال بيرينى غربا حتى الصين شرقا .. وفى ظاهرة غير مسبوقة تستمر الدول الأسلامية مزدهرة فى الأندلس والشرق الأوسط والهند ، مع مراكزها فى قرطبة وبغداد ودلهى لمئات السنين .. وفى بعضها ظلـت ممتدة لأكثر من ألف عام .. ! لقد أخذ الأسلام يتراجع من الأندلس التى حكمها أكثر من 700 عام منسحبا تحت الضربات الموجعة لمحاكم التفتيش الكنسية مخلّفا وراءه أعظم حضارة شهدتها أوربا فى عصورها الوسطي التى يطلقون عليها عصور الظلام .. ولكن تجد هذه الحضارة العظيمة طريقها مرة أخرى إلى أوربا من ناحية الشرق عبر آسيا الوسطى التى إنبثقت بها ينابيع جديدة من حضارة اللإسلام لتغمر القسطنطينية ثم تفيض إلى أوربا عبْر البلقان ...
حاصر العثمانيون مدينة فينا أخر مرة سنة 1682م ( أى قبل نحو 300 عام )، بينما سقط الحكم الأسلامى فى الهند قبل نحو 250عام ، بعد عهد وُصف بأنه "أجمل وأزهى عهد عاشته الهند فى تاريخها وفق تعبير"(هـ . ج . ويلز)، أى فى عهد أسرة المغول العظام من (1526-1707م) ...
ويتمهل بيجوفيتش عند هذه النقطة قليلا ليطلعنا على مزيد من التفاصيل حيث يقول: " أحاول هنا أن أورد ُبعض الحقائق التاريخية لتقريب الصورة إلى ألأذهان .. فقد كان أكبر شاه –أحد ملوك أسرة المغول العظام –" وأحد أكبر عظماء ملوك الهند، بل إنه فى تقدير المؤرخين المنصفين قد تبوأ مكانة متميّزة شامخة بين عظماء الحُكّام فى تاريخ الأنسانية كلها .. أولئك الحكام الذين كانوا عظماء بالمعنى التام للكلمة . فأغلب جوانب النظام الذى أقامه فى الهند مازال قائما إلى اليوم .. ذكر المؤرخون عنه قصصا وملاحم هى أقرب إلى الأساطير لولا أنها موثّقة فى وثائق لا يمكن إنكارها .. قالوا عنه أنه كان أشجع الشجعان فى القتال ولكن بمجرد أن يحقق النصرعلى أعدائه تتجلّى خصائصه الإنسانية الرحيمة فى معاملة الأسرى المهزومين .. كان عدوا لدودا لجميع ألوان الظلم والوحشية . سخّر قوته لأعمال عظام وقت السلم ، وأقام المدارس فى أنحاء الهند .. فلم تخْل مدينة صغيرة أو كبيرة إلا وبها مدرسة .. ولذلك يعترف الدكتور شْميت فى كتابه " تاريخ العالم " حيث يقول: " لعله لم يدرك أهمية ما أنجز لبلاده من تقدّم بقدر ما أدركه الأنجليز الذين قضوا على حكمه فى الهند ، إلا أنه عمل أكثر بكثير منهم لسعادة بلاده وتقدم شعبه" ... " كان هذا الأسطورة الإسلامية هو حفيد أكبر شاه (أورانجزيب) الذى حكم شبه الجزيرة الهندية كلها وعاش عمرا قصيرا لم يبلغ الخمسين عاما فقد ولد ومات بين (1658-1707م) .. وهوتاريخ ليس بالبعيد عن عصرنا الحاضر ... "
يلفت بيجوفيتش نظرنا بقوة إلى ظاهرة نادرة فى تاريخ الأمم عندما تشرع الأمة الغالبة فى تدمير كل شيئ بأرض الأمة المغلوبة .. فعلها المغول فى الزمن القديم وفعلها الإنجليز والأمريكيون ولا يزالون يفعلونها فى العراق وأفغانستان .. وتفعلها إسرائيل كل يوم فى فلسطين المحتلة على مدى ستين عاما .. فهذه القوى البربرية الغاشمة لديها القدرة التكنولوجية الفائقة على الهدم .. ولكنها لا تملك مثقال ذرة من القدرة أو الإرادة على إعادة البناء كما تزعم دائما .. ولا تحقق شيئا مما وعدت به أبدا .. والواقع أكبر شهادة على ذلك .. فقد وعدت أمريكا بإعادة بناء مادمره الصرب فى حرب البوسنه .. وقد مرت اليوم أربعة عشرة سنة على وقف الحرب وتوقيع الأطراف المتحاربة على إتفاقية دايتون للسلام ولم تفِ أمريكا بعُشر ماوعدت به لا فى البوسنة ولا فى كوسوفا .. ولن تعيد بناء العراق ولا أفغانستان .. وإنما تظل قضية إعادة البناء هذه معلّقة أبدا كورقة أمريكية للإبتزاز وفرض الشروط والإملاءات والقهر والإذلال .. ولست أستثنى من هذا تبرعات أمريكا لإعادة بناء مادمرته إسرائيل فى غزة كما تزعم .. إنما هى رشوة مقنّعة ستدخل جيوب رجال السلطة ليبقوا تحت السيطرة الأمريكية الإسرائيلية وفى خدمة مخططاتها .. أراهن على ذلك .. وأراهن أن هذه الأموال لن يصل منها إلى غزة إلا الفُتات ( مُؤَجّلة وبشروطها المذِلّة ) ....!!
(7)
ننتقل مع على عزت بيجوفيتش لنتابع الصورة المشرقة للمسلمين عندما كانت كفّتهم هى الرّاجحة .. يقول: " لم يهدم المسلمون شيئا من الأراضى الخاضعة لسلطانهم ، بل إنصرف جهدهم لاستيعاب العلوم التى ازدهرت بين الشعوب الواقعة تحت حكمهم فأتقنوها وطوّروها ثم نقلوها الى الشعوب الأخرى .. ولا شك أن الفضل فى هذا السلوك الإنساني المبهر إنما يعود إلى روح الإسلام وتعاليم الأسلام .. وهذا واحد من قياصرة بيزنطة لم ينقطع عجبه من القائد المسلم الذى وصفه فى بادئ الأمر بالهمجى .. (لإصراره على إدخال بند فى إتفاقية السلام بينهما أن يضمن له حق شراء المخطوطات اليونانية) .. وكان هذا القائد الموصوف بالهمجى قائدا عربيا مسلما .. متعطّشا إلى العلم يبحث عنه فى كل ركن من أركان الدنيا لأن قرآنه يحثه بل يأمره باكتساب العلم والمعرفة وعمارة الدنيا على أفضل وأبهى مايستطيع .. ويعلم أن نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) هو القائل: " الحكمة ضالّة المؤمن أنّا وجدها فهو أولى بها " ويعلم أنه قد جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ...
يقول بيجوفيتش: لقد استوعب المسلمون إبداعات الفينيقين فى مجال معالجة الزجاج ، و أخذوا من المصريين فنون النسيج التى ورثوها من أقدم العصور التاريخية ، و استفادوا من خبرة السوريين فى مجال معالجة القطن ، ومن الفرس فى مجال الحرير.. وفى هذا يقول ريسلر: " لقد كان نسيج البيزنطيين والأقباط والساسانيين ذائع الصيت فى ذلك الوقت ، ولكن إستطاع المسلمون إستيعابه وإتقانه و الحفاظ على مستوى روعته." .. وهناك نماذج من الأقمشة المصنوعة فى ذلك الوقت محفوظة فى متحف اللوفر بفرنسا وفى المتحف القيصرى باليابان .. ولم يدرك أحد حتى الآن مهارة العرب وهندستهم فى معالجة الزجاج .. ولا زلنا نشاهد حتى اليوم ضمن مايحتفظ به متحف اللوفر والمتحف البريطانيّ من تحف إسلامية، قطعا من روائع المصنوعات الزجاجية جُمعت من سامراء والفسطاط ...
وكان الكيميائيون العرب أول من أخترع الصابون وأقاموا مصانع لإنتاجه ، وكان للوزير الفضل البرمكى قصب السبق فى إنشاء مصنع الورق فى بغداد ، وهكذأ رأينا صناعة الورق التى بدأت فى الصين قد تطورت وانتقلت بسرعة فائقة عن طريق المسلمين فى الأندلس إلى كل أنحاء أوربا، بينما ظلت مدينة سمرقند تنتج أجود أنواع الورق فى العالم مدة طويلة من الزمن.
اختط العرب مدينة بغداد (المدينة الساحرة كما تعكسها قصص ألف ليلة وليلة) بعد أن فتحوا العراق .. وعندما حكمها الخليفة هارون الرشيد لم يكن قد مر على تأسيس بغداد أكثر من خمسين سنة ، ولكنها كانت حاضرة العالم فى الثقافة والرخاء .. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد سكان بغداد فى القرن الحادى عشر بلغ أكثر من مليونين ، وكانت أكبر مدينة فى العالم فى ذلك الوقت . وعند حديثه عن هارون الرشيد راعى الحضارة الإسلامية ، يقول ريسلر: " كانت عظمته تجذب نوابغ الراجال إليه مثل المغناطيس ، فجمع حوله برلمانا غير مألوف تكوّن من الشعراء والفقهاء والأطباء واللغويين والموسيقيين والفنانين ، ولم يسجل التاريخ أن قصر حاكم ما قد اجتمع فيه مثل هذا العدد من العلماء الفطاحل ، مثلما حصل فى عهد هارون الرشيد لأن عهده كان عهد حضارة راقية و عهد تسامح أخّاذ ..." يا حسرة على بغداد الجميلة فى العهد الأمريكي الهمجيّ ..!!
إستمع معى إلى على عزت بيجوفيتش يتدفق حماسا وشاعرية وهو يعدد شواهد دامغة على سماحة الحضارة الإسلامية واحتضانها لكل أنواع البشر ورعايتها لكل الأديان .. إنه يقول باعتزاز: " فى عهد الخليفة المأمون وُجد فى أنحاء الخلافة الإسلامية أكثر من أحد عشر ألف كنيسة ، ومئات المعابد اليهودية .. بل ومعابد عبدة النار، وأصبحت الجامعة النظامية التى أسست سنة 1065م نموذجا أتّبعته المراكز العلمية فى كبرى مدن الخلافة ، وكانت تدرس علوم القرآن والحديث والفقه – خاصة فقه المذهب الشافعى – وعلم اللغة والأدب والتاريخ وعلم حضارات الشعوب والآثار والفلك والرياضيات والكمياء والفزياء والموسيقى والهندسة .. وبعد قيام النظامية بمدة وجيزة أُسّست فى بغداد الجامعة المستنصرية فكانت بحق مركز العالم الإسلامى .. تُدرّس فيها علوم الفقه والعلوم التطبيقية والأدب والفنون وغيرها .. هذه المنظومة الفريدة فى تدريس العلوم هو نفس المنظومة ذاتها التى قلّدها الغرب بعد ذلك فى جامعة باريس...
كانت الدراسة فى المراحل الابتدائية ( أو ما يعرف اليوم بالمدارس الابتدائية والثانوية) بالمجّان لجميع الناس .. ومن أجل السماع من أعلام عصرهم والأخذ عنهم رحل الآلاف من طلبة العلم إلى مكة والمدينة والقاهرة ودمشق وبغداد .. وكانت خدمات الإقامة والطعام والدراسة تُقدّم للطلاب طوال رحلتهم مجانا فى جميع المدن التى كانوا يمرون بها .. كما فى البلاد التى استقروا بها لتحصيل العلم على السواء . وبعبارة أخرى يمكن أن نستخلص مما ذكرنا : إننا نرى فى العالم الإسلامى فى القرنين العاشر والحادى عشر ظاهرة لم نسمع بها قط فى أى حضارة أخرى : فأينما يمّمت وجهك ترى الشغف بالكتاب والعلم ، وتسمع أصوات أفصح العلماء تدوّىفى آلاف المساجد ، وتعج قصور الحكام والأمراء بحلقات الشعراء والفلاسفة ، وتقابل فى الطرقات علماء جغرافيا وتاريخ وشريعة يبحثون فى العلوم المختلفة .. وكانت هذه الفترة هى أهم المراحل فى تاريخ الفكر الأسلامى." على حد قول (رسْـلر) ...
حكم الأسلام العالم خمسمائة سنة ( من 700-1200م )بمحض تفوقه الحضارى على الأمم الأخرى .. حيث "كان الخليفة الناصر فى مدينة مراكش يتباحث مع الفليسوف ابن رشد فى فكر أرسطو وأفلاطون ، فى وقت كان أمراء ونبلاء الدول الغربية يتفاخرون بأنهم لا يعرفون القراءة أو الكتابة "... وكان الخليفة الحاكم الأموى يمتلك مكتبة تضم ّبين جنباتها 400 ألف مجلد ، بينما رأينا ملك فرنسا كارلو الخامس الملقب بـ "المعلم" يفتخر بعد ذلك بأربعمائة سنة بمكتبته التى تألّفت من نحو ألف مجلد فقط [وياله من إنجاز..!] .. ويذكر اليعقوبى أنه أحصى سنة 891 م أكثر من مائة مكتبة فى بغداد وحدها . ويضيف رسلر قائلا: " لم يكن أحد من أغنياء المسلمين يبخل بماله عن الإنفاق فى العلم والأدب والفنون." وتزويد المكتبات العامة والخاصة بالكتب حتى قيل أن خزانة مكتبة مدينة النجف الصغيرة فى العراق كانت تحتوى على ما يزيد عن 40 ألف مجلد .. واحتوت مكتبة أبى الفداء وهو أحد الأمراء الأكراد من حماة على 70 ألف مجلد ، ومكتبة المؤيد فى جنوب الجزيرة العربية أكثر من 100 ألف مجلد، ومكتبة مراغة على400 ألف مجلد ، وكانت عناوين الكتب الموجودة فى مكتبة مدينة الرِّى مدونة فى عشر سجلات من الفهارس الضخمة ... أما أكبر مكتبة على الإطلاق فى العالم وقتذاك فقد كانت مكتبة العزيز بمدينة القاهرة حيث كانت تحتوى على مليون وستمائة ألف (1,600,000 ) مجلد ، منها 6,500 مجلد فى الرياضيات وحدها و 1,800مجلد فى الفلسفة : وأما مكتبة مدينة بُخارى فقد وصفها الفليسوف الشهير ابن سينا بقوله :"رأيت كتبا لا وجود لها فى أى مكان بالعالم ...!" وفى معرض ذكره للحاكم العظيم فى الأندلس الإسلامية عبد الرحمن الأول ومحاولته جمع العلماء من مختلف الأجناس فى الجزء الغربى من الخلافة الإسلامية (من العرب والبربر والمرابطين والأندلسيين ) يقول ريسْلر :"إن هذا الهدف كان فى حقيقة أمره حركة استطاعت عبر القرون اللاحقة النهوض بالأندلس الأسلامية إلى ذروة الحضارة البشرية ... وعند وفاة الخليفة عبد الرحمن الأول سنة 788م كانت الأندلس الأسلامية قد أضاءت عالم الغرب بأنوار العلوم والشعر والفنون الهندسية ."
ويذكر العالم الهولندى دوزى أن جميع سكان الأندلس الإسلامية كانوا يحسنون القراءة والكتابة فى وقت كانت الكتابة فى أوربا حكرا على عدد من رجال الكنيسة ثم يضيف :"لقد جذبت هذه الحضارة المزدهرة رجال الكنيسة وعامة الناس فى الغرب النصرانى فتقاطروا عليها بكل حرية ليلتحقوا بجامعات قرطبة وإشبيلية وطليطلة وليشهدوا ويتعلموا من محاضرات مشاهير العلماء المسلمين فى هذه الجامعات الأسلامية العريقة ..."
(8)
نتابع فيما يلى بيجوفيتش وهو يردّ على تساؤله : هل كان الإسلام سببا فى تخلّف المسلمين..!؟ إنه يرفض بقوّة فكرة إقتران الإسلام بالتخلف فى مجالات الفكر والواقع جميعا مستندا فى ذلك إلى الأدلّة التاريخية الموثّقة ، مستدعيا حشدا من شهادات الشهود من غير المسلمين: مؤرخين وعلماء أُخِذوا بمسلك الحضارة الإسلامية وانبهروا بها إلى درجة جعلت مفكرا فرنسيا مثل ريسلر يرى إهتمام الإسلام بأمور الدنيا وإصلاحها بالعدل والعلم ومحاربة الظلم والجور والقذارة والخرافة.. وغير ذلك مما يقع فى دائرة الجهاد بمعناه الشامل ، يعتقد تبعا لهذا الفهم أن أركان الإسلام ستة لا خمسة فقط .. إذ يرى أن الجهاد واحد منها ..وقد عزز هذا الفهم عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث له وصف الجهاد بأنه ذروة سنام الإسلام ... [ أشرنا من قبل أن هذا رأي ريسلر وفهمه هو .. وليس رأي بيجوفيتش]
(8)
هناك إذن مفكرون وكتاب ومؤرخون غربيون منصفون مثل ريسلر وغيره .. وهناك عشّاق حقيقيون للحضارة الإسلامية .. عبّروا عن هذا العشق بقوة وصراحة فى كتب لهم قدّمتُ بعضا منها فى مقالات لى منها (الإسلام واكتشاف الحرية ) .. وفى مقالات أخرى تحت عنوان (عبقرية الحضارة الإسلامية) ...
هناك قصص كثيرة تُرْوَي عن أمجادنا الغابرة .. نهرب إليها نعم ..! حتى لا تصاب أرواحنا بالتكلّس أو يفترس قلوبنا اليأس والقنوط .. أو تنصرف عزائمنا عن السعي إلى مستقبل أفضل من حاضرنا .. نلجأ إلى قصص ماضينا المشرق لا لكي نصبح [ ماضويّين ونتخلف فى كهوف الأزمان الغابرة] .. عبارات مصبوبة فى قوالب أيديولوجية عفا عليها الزمن ولكن لا يزال اصحابها يتشدّقوا بها فى مجالسهم .. إنهم يسخرون من ماضى الأمة الزاهر .. ولكننا رغما عنهم لا نمل من عرض قصص ماضينا المجيدة لعلها تحفز عزائمنا من جديد .. لعلها تفتح علينا آفاقا جديدة للنهضة أو للثورة أو الإصلاح .. لعلها تحرك همم شبابنا ليصلحوا ما أفسدناه نحن بتقاعسنا واستسلامنا .. وجرينا وراء سراب الأيديولوجيات المستوردة من الشرق ومن الغرب .. وأهملنا الكنوز التى بين أيدينا ...
اليوم يتحدث قادة الغرب عن نظام عالمي إقتصادي جديد لأن النظام الذى سموه ليبرالي يتهاوى أمام أعينهم ولا يعرفون له علاجا .. وأصبح الذين كانوا بالأمس أبطال الليبرالية والعولمة وإقتصاد السوق هم اليوم المجرمون الذين يُنظر إليهم بغضب واشمئزاز .. ساركوزى الذى كان يفخر بأنه خادم الرأسمالية والشركات العملاقة .. وكان من أنصار تقليص دور الدولة فى إدارة الإقتصاد وترْك المؤسسات المالية والشركات تدير شئونها بنفسها .. هو نفسه الذى يقول اليوم لايجب أن نترك هذه المؤسسات السفيهة تجرفنا إلى الخراب.. ولا بد من فرض رقابة الدولة على سلوكها .. وتصرفاتها .. ولو كنا نحن المسلمون قد وعينا وحافظنا على فكرنا الإسلامي فى المال والإقتصاد وأعطينا لأصحابه ورواده الفرصة للتجريب والتطوير والإتقان لكان الحل الحقيقى للإقتصاد العالمي المنهار فى أيدينا اليوم : نظام مالى برئ من الديون والفوائد الربوية نقدمه خدمة للبشرية التى تئن وتتوقع الأسوأ فى قادم الأيام .. وعلى الأخص الطبقات الكادحة .. هذه الطبقات المذعورة من شبح المستقبل المظلم الذى لا يحمل فى طياته إلا المزيد من ضيق العيش .. حيث تغلق المصانع والشركات أبوابها .. وتقذف خارجها بأعداد هائلة من العاطلين المطرودين من وظائفهم وأعمالهم كل يوم .. إنهم الغالبية العظمى من البشر فى كل بلاد العالم الذين لا تأبه بهم النخب الحاكمة ...

انفض إجتماع قمة الدول العشرين الكبرى فى لندن على غير اتفاق .. وعلى أى شيئ يتفقون وهم لا يملكون حلا ولا حياة ولا نشورا ..!!؟ ولا حتى مجرد رؤية خارج إطار هذا النظام الإقتصادي العالمى الفاسد المتهرّئ.. لقد وصل هذا النظام فى النهاية إلى طريق مسدود .. ولا يملك صندوق النقد الدولى ولا البنك الدولي .. ولا كل سدنة المال والإقتصاد فى العالم علاجا ناجعا لهذا النظام الذى إنتهت مدّة صلاحيته ... لكن الذين يملكون الحل الصحيح [كما يظن بابا الفاتيكان نفسه] هم المسلمون .. إنه النظام القائم على مبادئ الإسلام والأخلاق ... لكننا حاربناه وسخرنا منه و سخرنا من أصحابه وبعثنا بهم إلى غيابات السجون ... فلنطرح كل هذا جانبا ولننظر ماذا يقدمه لنا اليوم على عزت بيجوفيتش أحد أكبر رواد النهضة الإسلامية فى العصر الحديث ...

(9)
من تجليات هذه النهضة الإسلامية فى مجال الزراعة يقول بيجوفيتش: لقد بلغت الزراعة مستوى عاليا من التقدم فى أرجاء بلاد الخلافة لأنها كانت تُمارس طبقا لتوجيهات العلم الزراعي وعلمائه ولن نسترسل كثيرا فى هذا المجال ، وإنما نذكر فقط بعض الحقائق الهامة: "عينت الدولة موظفا مسئولا عن شبكة الرى فى جميع أقاليم الدولة الإسلامية .. وظهرت بحوث علمية فى مدينة إشبيلية تناولت تفاصيل زراعة ما يزيد عن خمسين نوعا من الفواكه .. كما تناولت بالتفصيل أمراض النباتات وأساليب علاجها .. وكان إنتاج الحرير فى بلاد فارس قد ارتقى إلى مستويات عالية وفق الحقائق العلمية ، لذلك استطاعت فارس تغطية احتياجات الأسواق الأوربية من الحرير لمدة تزيد على مائة سنة ...
ويصف الإدريسى وصفا دقيقا 360 عقارا من العقاقير المستخدمة فى صناعة الأدوية ، بينما قام ابن العباس من إشبيلية بإجراء أبحاث على نباتات البحار [ اليابان الآن تجرى بحوثا وتجارب على تحمّل النباتات لمياه البحرالمالحة .. والمسلمون ألأقدمون سبقوا بعبقريتهم وإبداعاتهم وطرقوا هذه لآفاق قبل اليابانيين بألف عام .. ولكن المتخلفون اليوم هم نحن .. لا بإسلامنا تخلّفنا ولكن بتغييب إسلامنا من حياتنا .. كان الإسلام حافز تقدم وباعث نهضة وحضارة، ولكننا حاصرناه فى زنزانة الشعائر والشكليات .. وركّزت النخب الحاكمة كل جهودها على إستبعاد الإسلام من منظومة الحياة العامة والحياة السياسية .. وجاءت النخب المثقفة فى الصحافة والإعلام لتكريس هذا التوجّه ولتجعل رزقها فى معاداة الإسلام ومنافقة الحكام .. وتسويغ طغيانهم واستبدادهم ... ]
يمضى على عزت بيجوفيتش ليكشف لنا أبعاد التقدم الزراعي فى إطار الحضارة الإسلامية فيقول: فى سنة 1190م اشتهر ابن العوام (من إشبيلية) بمؤلَّفه "كتاب الفلاحة " ، وصف فيه أنواعا من نباتات وفواكه وذكر أنواعا رئيسية من الأسمدة .. ويرى بيجوفيتش أن هذا التطور الكبير فى علوم الزراعة يعد أحد المنافع المستمرة التى استفادتها دولة إسبانيا الحديثة من حضارة المسلمين. ...
يقول ريسلر: كانت حالة الرخاء قد عمّت أودية دجلة والفرات والنيل .. كما عمت سكان هضاب الفرس وسوريا بقدر ما شملت الحواضر والموانئ على سواحل البحار.. ووصل الطب والصحة الى مراحل متقدمة جدا .. ويعلق بيجوفيتش على هذه النقطة قائلا: هذا ما يهمنا بشكل خاص .. لأن هذا الجانب -بدون شك- يدخل ضمن النتائج المباشرة لأوامر الإسلام وفروضه .. فالأحاديث التى تتحدث عن الطب والصحة تزيدعن ثلاثمائة حديث ، جُمعت فى كتب "الطب النبوى" والنتيجة المباشرة لهذا أننا نجد فى كافة المناطق التى خضعت يوما ما للسلطة الأسلامية عناية خاصة بشبكة المياه والحمامات والمستشفيات.. وهذه من صميم الوظيفة العامة للحكومة الإسلامية .. نجد فى هذا الإطارأربعة وثلاثين مستشفى فى أنحاء الدولة الإسلامية سنة 850م .. كان مستشفى (بيمارستان) دمشق يُدار بنفقات سخية من الدولة ، وكان مجهزا تجهيزا فائقا ومفتوحا أمام الأغنياء والفقراء على السواء .. ويديره فريق مكون من أربعة وعشرين طبيبا متخّصًصا .. يقول نيوبيرجر أستاذ تاريخ الطب : " إن جميع الرحالة فى القرون الوسطى – وكانو عددا كبيرا – متفقون فى إعجابهم بمستشفيات الشرق .. وقد سجلوا شهاداتهم التى أجمعوا فيها على أن تنظيم وإدارة المستشفيات فى دمشق يمثل أحد أروع منجزات الحضارة الإسلامية."
يقول على عزت: لقد أقيمت شبكة المياه فى سراييفو قبل لندن بـ 148 سنة .. و قبل فيينّا بـ378 سنة ... !! كما كانت الحمامات العامة ظاهرة مألوفة وخاصية من خصائص الأسلام .. وكان الأهتمام بالنظافة الشخصية شيئا إعتياديا فى بيوت المسلمين .. يتساوى فى ذلك أغنياؤهم وفقراؤهم على حد سواء .. تدل على ذلك وجود حمامات فى غرف مستقلة داخل بيوت المسلمين ..
ويتابع بيجوفيتش حديثه بمقارنات مذهلة من العصر الحديث فيقول: لمجرد المقارنة نضرب مثلا لصورة واقعية عن حى هارلم المخصص للسود فى نيويورك – ففى النصف الثانى من القرن العشرين – لا زلنا نسمع أن شوارعه تنتشر فيها الروائح الكريهة والقمامة وروائح أنواع الخمر الرخيصة وبيوت الدعارة .. ولنأخذ حالة مدينة باريس .. وأنا إنما أنقل هنا ما ذكرته صحيفة "كورييرا ديلا سيرا" الإيطالية عن مدينة باريس سنة 1965م: "إن 66% من مساكن باريس (وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 80%فى قلب المدينة ) لا يوجد فيها حمامات إطلاقا .. بينما ينتظر 10% من سكان باريس لتحقيق أمنية الفليسوف الفرنسي فولتير (المتوفى سنة 1778) أن تمتد شبكة المياه العذبة إلى جميع سكان باريس ." ...!!
[ ولا زلت أذكر أن المذيعة المشهورة آمال فهمى التى ذهبت لزيارة باريس فى الستينات من القرن الماضى .. وعادت تحكى قصة عجيبة: فعندما سألت أصحاب الفندق الذى كانت تقيم فيه : أين حمامات الفندق ؟؟ فقالوا لها لا توجد لدينا حمامات .. ويمكن الذهاب إلى أحد الحمامات العامة بالأجر .. ولا تنسيْ أن تأخذى ليفتك معك .. والعهدة على الراوية وهى لا تزال حية تُرزق فاسألوها ...!!]
(10)
أمرالخليفة المنصور سنة 773 م بترجمة كتب علم الفلك التى أُلّفَتْ حوالى سنة 425 قبل الميلاد باللغة الساسانية ... وكان إبراهيم الزركلى قد وضع "جدول طليطلة" .. ومهّد البيرونى الطريق أمام كوبرنيكوس بدحض نظرية انحراف الكواكب عن مركزها التى وضعها بطليموس فى تفسير دوران الكواكب .. وتمكن عمر بن الخيام (المشهور فى الغرب بشعره أكثر من علومه ) من وضع تقويم أدق من التقويم الغربى الذى لا يزال مستخدما إلى هذا اليوم .. لأن هذا التقويم يخطئ فى حساب يوم واحد كل ثلاثة آلاف وثلاثمائة سنة ...
وكانت كتب ابن الهيثم العالم المسلم (من الأندلس) فى علم البصريات أساسا لبحوث علماء أوربا مثل بيكون وكابلير .. بينما قال عالم الرياضيات شاسليس ( فى القرن التاسع عشر ) عن بحوث ابن الهيثم : "إنها كانت أساس وجوهر ما توصلنا إليه فى مجال علم البصريات" .. وهكذا تتوالى شهادات علماء أوربيون يعترفون بسبق العلماء المسلمين وريادتهم فى كل فروع المعرفة العلمية ، التى أخذتها أوربا عنهم فيما بعد ...

فإذا إنتقلنا إلى مجالات الشعر والأدب نجد أثر الشعر العربى واضحا فى "ملحمة رونالد" وهى أول ملحمة كبيرة فى الأدب الغربى ( كتبت سنة 1080م تقريبا) .. و لا ينكر أحد تأثير الشعر العربى فى شعراء أوربا من أمثال: بوشاكو وشانسير و تنيسون و براونينج ... وكان الشاعر الإيطالى دانتى أليجييرى صاحب الكوميديا الإلهية واقعا تحت تأثير قوة الشعر الإسلامى .. فقد حفلت فصول هذه الملحمة الرائعة بأوصاف عربية أصيلة لرحلة فى أسرار ملكوت السماء وفى اعماق الجحيم .. على حد قول أحد نقاد الأدب .. ويعتقد ريسلر أن تأثير كتابات الفيلسوف ابن عربى بصفة خاصة (وهو من من القرن الثالث عشر) هى الأكثر تأثيرا فى الشاعر الإيطالي دانتى أليجيرى ...
والفكرة التى بُنيت عليها رواية (دون كيشوت) مستوحاة من أصول عربية .. بل إن كاتبها ميجل سرفانتس قد اعترف بأنه كتب روايته هذه أولا باللغة العربية .. لأنه عاش أسيرا فى الجزائر زمنا طويلا .. حيث تمكن من تعلّم اللغة العربية فأتقنها حديثا وكتابة .. كذلك استلهم دانيال ديفو فكرة روايته الشهيرة (روبنسون كروزو) من كتال (حيْ بن يقظان) للفيلسوف العربي إبن طُفيل ..
يقول بيجوفيتش: لابد لى فى هذا المقام من الأعتذار إلى القارئ الكريم لأننى أمطرته بوابل من الحقائق التى لا مفر من إيرادها حتى أُفسح أمامه مجالا لكى يجيب بنفسه وأمام ضميره عن السؤال : هل يمكن أن يكون الإسلام سببا للتخلّف..؟؟ هل الإسلام يخدّر ويثبّط قوة وإرادة شعب ما ...!!؟ وهل يمكننا قبول رأى يرى أن الإسلام الذى كان مصدر إلهام وحركة إبداعية أقامت مدنا ودولا فى عهوده السالفة يأتى اليوم أو فى أى زمان مستقبلي بتائج مختلفة إختلافا كلّـيًّا لما كان عليه فى السابق ..!!؟
يجب أن أنبه هنا إلى أن هذا العرض لبعض معطيات الحضارة الأسلامية هو عرض مقتضب وغير كامل .. فلم أحاول هنا أن أشير ولو مجرد إشارة إلى شيئ من روائع الفلسفة الإسلامية .. وإنْ حقّ لها أن تفتخر بعشرات الأسماء اللامعة .. إن أشد العروض إيجازا لتاريخ الفلسفة الإسلامية يقع فى عدّة مجلدات .. كما نرى فى كتاب "مفكرو الإسلام" باللغة الفرنسية الذى جاء فى عشر مجلدات .. ولم نعرض لفن العمارة الإسلامية التى لا يمثل تاج محل فى الهند وقصر الحمراء فى الأندلس إلا لمحة إبداعية واحدة من آلاف النماذج المنتشرة حول العالم .. شاهدا على عبقرية هذه الحضارة الإسلامية .. . وسعيا وراء تحقيق الهدف المحدد الذى وضعناه فى بداية المقال .. لقد إغترفنا غرفة واحدة من بحر الحقائق المرتبطة بظاهرة عُـرفت فى تاريخ العالم باسم "الحضارة الإسلامية" .. لقد مررنا مرور الكرام على بعض الحقائق المعروضة بلا نظام ولا إستقصاء .. شأننا فى هذا شأن عالم الجيولوجيا الذى يقبض حفنة من رمل أو حصى ليبنى عليها تصوره عن تركيبة الجبال الشامخة الممتدة أمامه على مرمى البصر ...
(11)
يقول بيجوفيتش: يحق للبعض منا أن يتساءل: [مع وجود كل هذه الحقائق التاريخية كيف أمكن إستمرار المزاعم والأساطير التى تقدّم الإسلام فى صورة دين قوامه التطرف والجهل والطغيان ...!!؟ ويجيب بيجوفيتش على تساؤله قائلا: "إن التشبث بهذه الصورة الكاذبة المغرضة عن الإسلام .. بكل هذا الإصرار والتعصّب الذى تجذّر فى ثقافة أوربا خلال القرون الوسطى .. كان وما يزال إلى اليوم من أولويات مصالح واتجاهات فكرية وسياسية فى أوربا .. هذه الاتجاهات رغم كل ما بينها من خلاف دائم ومستميت فى جميع المسائل الأخرى متفقة تماما فيما بينها على شيئ واحد :[ إذا أحتاج الأمر إلى النيل من الإسلام والمسلمين فإنهم يسارعون جميعا بتقديم هذه الصورة إلى شعوبهم وإلى العالم ] .. وسوف نجد أن لكل طرف منهم مصلحة معينة: فالعناصر التى تدّعى الليبرالية والتقدمية لها أهدافها .. والكنيسة لها أهدافها .. والدول الاستعمارية لها أهداف أخرى، وكلها أهداف مضمرة وليست معلنة فقد برّرت الدول الإستعمارية حروبها ضد بلاد الشرق بنشر رسالة الرجل الأبيض تجاه هذه البلاد .. وتلك من الأهداف المعلنة الظاهرة .. أما الأهداف الحقيقية المضمرة فكلها تدور فى نطاق النهب والسلب والسرقة والقرصنة واستباحة بلاد المسلمين .. ومن الأهداف الظاهرة صورة "إرساليات التنوير بين الشعوب الهمجية والبربرية." .. وقد ساعد هذا الزعم جهل أجيال من المسلمين المتعاقبة لحقائق التاريخ الثابتة .. إضافة إلى أن أوضاعا مستشرية من الفقر المدقع وقلة النظافة فى العالم الأسلامى فى عصر الانحطاط .. كل ذلك جعل هذه الصورة المزوّرة تترسخ أكثر فى الأذهان ...
ولعلى عزت بيجوفيتش فى هذا المجال أفكار وملاحظات هامة .. حيث نراه هنا ينبّه إلى أن للأعداء وسائل غاية فى الدقة للوصول إلى أهدافهم يقول عنها: إن أعداء الإسلام والمسلمين يحققون النتائج نفسها باستخدام أسلوب مجرّب فى تقديم أنصاف الحقائق .. ويكمن سر قوة هذا الأسلوب فى الرصد المنتظم المتقن لجميع السلبيات الظاهرة ... ثم تكرارها على الأسماع والأبصار بصورة مستمرة ، مع الصمت المطبق والمتعمد عن كل المنجزات والمظاهر الإيجابية فى تاريخ وحاضر العالم الأسلامى ... ويضرب بيجوفيتش مثالا واحدا على هذا الصمت الذى يقرنه بالمؤامرة لأنه متعمّد فيسميه "مؤامرة الصمت" .. الصمت عن إسهامات المسلمين فى تقدّم العلوم وازدهارها فيقول: لايمكن أبدا تصوّر التطور التاريخى فى علم الرياضيات بدون معرفة إسهامات الملسلمين فى مجال هذا العلم .. ومع ذلك فقد انبرى عدد من "المؤرخين الأوربيين المهرة فى تزوير تاريخ العلوم" لتحقيق هذا الهدف المستحيل .. حيث نراهم وهم يعرضون تاريخ علم الرياضيات يقفزون بكل سهولة ووقاحة من إقليدس اليوناني الذى (مات سنة 275قبل الميلاد) إلى بدايات علم الرياضيات فى أوربا .. متجاهلين بذلك فترة تمتد ألف سنة من تاريخ هذا العلم وتطوّره على يد علماء المسلمين، وكأن الرياضيات قد ماتت وتم تحنيطها وتكفينها و دفنها حتى جاء الأوربيون بعد ألف سنة ليفكوا عنها الرموز السرية ويستخرجوها من الأكفان ...!!

(11)
عرضنا فيما سلق للقفزة الهائلة فى التأريخ الغربي لعلم الرياضيات من إقليدس الإغريقي إلى بدايات علم الرياضيات فى أوربا الحديثة ، متجاهلين بذلك مدة ألف سنة من تاريخ هذا العلم .. يقول بيجوفيتش: لن يلاحظ القارئ العادي هذه "القفزة القاتلة" ، وحتى لو انتبه للخدعة فإنه لن يعبأ بها .. ذلك لأن ذهنه مسكون مسبقا بفكرة الفراغ التاريخى المسمى "بالقرون الوسطى".. ولا يعرف القارئ بأن عصور الظلام فى القرون الوسطى لم يكن لها وجود فى المناطق الإسلامية الشاسعة التى كانت تمتد من الأندلس إلى الهند .. وهكذا حاولوا أن يطمسوا من سجلات التاريخ قرونا من التطور والإزدهار فى علم الرياضيات عند المسلمين ..
فى هذه القرون الإسلامية الزاهرة اخترع عالم الرياضيات المسلم ابن أحمد رقم "الصفر" واقترح استخدامه فى كتابه الشهير "مفاتيح العلوم"؛ فإذا كان علماء الرياضة فى السابق قد أدركوا أهمية هذا الإكتشاف العبقري واعتبروه قفزة حقيقية فى تطوّرعلم الرياضيات، فإن خبراء علوم الحاسبات الآلية فى عصرنا الراهن يدركون قيمة الصفر (هذا الرقم السحري) فى بناء المنطق الأساسي الأولي للغة الحاسب الالي .. وكان من المستحيل التفكير فى أي تطور فى هذا المجال لو كانت الأرقام الرومانية أو (الاتينية) هى المهيمنة وحدها فهي نظام غبي من الترقيم والعذّ يخلو من الصفر .. ويتم بناء أعداده على عمليات جمع وطرح غاية فى السذاجة ..
ترجم (جيرارد دى كريمونى) فى القرن الثانى عشر للميلاد كتاب محمد بن موسى بن شاكر "حساب الدوائر والمعادلات" إلى اللغة اللاتينية.. وظل هذا الكتاب مرجعا أساسيا فى الجامعات الغربية حتى القرن السادس عشر .. ولقد عرفنا أن عمر بن الخيام كتب فى نقد علم الهندسة الإقليدية (نسبة إلى إقليدس) .. واعتبر العلماء الأوربيون نظرية (المعادلة التكعيبية) التى وضعها هى أعلى ذروة لعلم الرياضيات فى العصور الوسطى على الإطلاق ...
ويُعدُّ محمد بن جابر البتانى ( القرن العاشر ) هو واضع علم حساب المثلثات الحديث .. و القواعد التى أرساها وقتئذ ما زالت معمولا بها إلى وقتنا الحاضر .. فمصطلحات جيب الزاوية Sine ومنحنى جيب التمام Cosine وظل الزاوية Tangentوظل التمام Cotangent .. ونظام ثلاثى التماثل System Trigonometric .. كلها مصطلحات إسلامية .. أضاف إليها حسن المراكشى سنة 1229 م أول جداول النسب المثلثية( Trigonometric Tables ( ... و كلها كانت من وضع المسلمين العرب .. وهذا ما يؤكده ريسلر حيث يقول :"لم يكن كل ذلك من وضع اليونانيين .. بل كان من وضع العرب الذين يُعدّون بحق أساتذة الرياضيات فى عصر النهضة الغربية."... هذا مجرد مثال بين أمثلة لا حصر لها تكاد تكون متطابقة بالنسبة لكافة العلوم الأخرى ...
يعقّب على عزت بيجوفيتش بتساؤلات عميقة المعنى إذ يقول: أليس لنا الحق إذن أن نعرف وأن نحافظ على ماضينا وأن نفخر به .. !؟ ألا يجب أن نشق الطريق إليه ونفتح صفحاته ونمعن التأمل فيها ..!؟ أليس هذا هو الطريق الصحيح لكى نعلم علم اليقين من نحن !؟ ومن أين ننحدر ..!؟ وإلى أين يتعين علينا أن نستأنف مسيرتنا ..!؟ ألا ينبغى لنا أن ننظر بأعيننا لنتحقق بأنفسنا (من المنظور التاريخى) كم كانت طويلة عهود التاريخ التى أسهم فيها المسلمون إسهاما فعالا ورائعا فى تقدم البشرية السياسى والعلمي والحضاري .. وكم تتضاءل أمامها عصور تخلفنا المشين ...!؟
يحدّد بيجوفيتش وضع المسلمين عند أعمق نقطة تردّى إليها العالم المسلم بخريف عام 1918م .. ويعنى بها اللحظة المأساوية التى تمثل قاع الهاوية .. فى هذه اللحظة لم تكن توجد دولة إسلامية واحدة مستقلة .. ثم يقول: "لقد إنطوت هذه اللحظة فى الماضى السحيق ونأمل أن يكون قد إنطوى معها ذلك الأعتقاد الذى ظل معلقا على رأس العالم المسلم زمنا طويلا [ بأن كلمات "الذل والاحتقار والفقر والبؤس والجهل" متلازمة مع ذكر كلمة "الإسلام والمسلمين"] ...
إننا لنرى الأن فى كافة أنحاء العالم الإسلامى علامات صحوة وانبعاثٍ لإرادة جديدة .. ولا نشك أن ثمة شيئا ما قد تحرك .. وأن هذا الشئ الذى تحرك لا يمكن لأحد أن يوقفه أبدا !! ولكن لا ينبغى أن نخدع أنفسنا فنتصوّر أن هذه هى النهضة الحقيقية .. لا .. إنما هو وعد مؤكّد بقدوم تلك النهضة ...!! ثم يتابع بقوله :" كان السؤال المطروح فى مفتتح مقالنا هذا هو"هل الإسلام سبب تخلف الشعوب المسلمة ؟" الآن نرى أنه قد أصبح لزاما علينا أن نقلب السؤال رأسا على عقب .. إذ يحقّ لنا أن نسأل الآن بكثير من الثقة فنقول : " أليس غياب الإسلام عن الفرد والمجتمع المسلم هو السبب المباشر للتخلف الذى نتحدث عنه ..!؟ هذا هو السؤال الذىيقودنا مباشرة إلى أن نسلّط الضوء على الشرط الثانى الذى أشرنا إليه مُتضمّنًا فى هذا السؤال: هل يتبع المسلمون الإسلام حقا وفعلا ..!؟ "
(12)
يتابع على عزت بيجوفيتش فى هذا الشوط من مقالته الإجابة على هذا السؤال الخطير فيقول: إن الإسلام يطالبنا بالشجاعة ومدافعة الظلم كما نفهم من الآية التاسعة والثلاثين من سورة الشورى: { والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون ...} ومن هنا نستنتج أن من يستسلم للظلم لا يتّبع الإسلام اتّباعا صحيحا ، وهذا هو الذى يستنكره القرآن .. وتؤكده آلاف الأمثلة عبر التاريخ الأسلامى .. ورغم ذلك كله فأن المجتمعات المسلمة مليئة بالأذلاء والجبناء والمنافقين والمتزلّفين للحكام .. ومن ابرز الأدلة على ذلك فى تاريخنا إن الآلاف من سكان بغداد توجهوا بمنتهى الاستسلام – مثل قطيع الغنم – إلى سلخانات المغول ..! فهل يبقى أمامنا بعد ذلك مجال للإدعاء بأنهم كانوا فى تلك اللحظة من أتباع الإسلام على وجهه الصحيح ..؟
[وأضيف : أن الذين يقاومون الغزو الأمريكى اليوم فى العراق وأفغانستان هم أتباع الإسلام على وجه الحقيقة .. وكذلك الذين يقاومون الإحتلال الإسرائيلى اليوم فى فلسطين وفى غزة على وجه الخصوص هم الذين يتبعون الإسلام حقا وصدقا .. أما المستسلمون فلا ...!! ]
"إن الإسلام يحرم شرب الخمر ولكننا لا نكاد نجد دولة إسلامية إلا وفيها خمر تُُصنع فى معاملها وتُقـدُم فى فنادقها وتُشرب فى أنديتها .. مخلّفة بذلك الدمار والكوارث فى حياة الأسرة والمجتمع ... و قد جعل الإسلام الأخوة بين المسلمين فرضا .. ولكن لايزال المسلمون يختلفون ويقتتلون لصالح المستعمر الأجنبى ... وأعطى الإسلام المرأة مكانة رفيعة من الإحترام وجعل لها قدرا كبيرا من الاستقلال .. وجعلها متساوية مع الرجل فى الحقوق والواجبات فى كثير من النواحى .. ألم يكن النساء يرافقن أزواجهن فى الغزوات فى صدر الإسلام ويشجعنهم على الإقدام بالتكبير والأشعار .. كما وقع فى معركة اليرموك سنة 634م .. ؟ إن أحدى أقدم جامعات العالم وأعنى بها جامعة القيروان بمدينة فاس فى المغرب التى احتفلت عام 1960 بمرور ألف ومائة سنة عن تأسيسها ، هى من وقف امرأتين مسلمتين ..! وعلى نقيض ذلك نرى وضع المرأة المسلمة فى بعض الدول الإسلامية نموذجا لاستعباد المرأة وسلب حقوقها ..
لقد حارب الإسلام الفقر وأكّـد على المساواة بين الناس وعلى حقوق جميع المواطنين فى المسكن والمطعم والملبس .. و على حقهم فى وسيلة مواصلات ينتقلون بها لشئون حياتهم .. ولكننا نرى أقلية من الأثرياء وأصحاب السلطان فى بلاد المسلمين وقد سطوا على ثروة الأمة واستحوذوا على غالبية الأراضى فيها بينما ملايين الفقراء يتضورون جوعا .. وملايين الفلاحين الذين يزرعون الأرض لا يملكون شبرا من هذه الأرض التى يقومون بزراعتها ..!
كانت الأحوال فى العراق قبل إعلان الإصلاحات الزراعية سنة 1958 م على هذا النحو : الإقطاعيون وعددهم حوالى ثلاثة ألاف وستمائة شخص كانو يملكون 18 مليون فدان من مجموع 22 مليون فدان من الأراضى العراقية الصالحة للزراعة .. أى ما يعادل 82% منها، بينما كان مليون ونصف مليون فلاح عراقى لا يملكون شيئا على الإطلاق ..! وكانت الأوضاع فى أغلب دول المسلمين مشابهة لوضع العراق ... يقرر الإسلام مبدأ (إنما المؤمنون أخوة ) ولكننا نعلم علم اليقيين أن الإقطاعي ليس أخا للفلاح .. و قرر الإسلام وجود حق للفقراء فى أموال الأغنياء ولو طبق هذا المبدأ لأدى بكل تأكيد إلى إزالة الفوارق الاجتماعية فى مجتمعات المسلمين .. ولكننا نجد فى مدن كثيرة مظاهر الثراء المفرط والفقر المدقع جنبا إلى جنب ..! فهل هذا من الإسلام فى شيئ ..!!؟
ويقرر الإسلام أنه (لا يؤمن من بات شبعانا وجاره جائع) ولكن الإحصائيات تشير إلى أن نسبة المسلمين الذين يعانون من سوء التغذية تصل فى بعض الدول الإسلامية إلى 20% من مجموع سكانها .. فى الوقت نفسه ينام "أخوانهم فى الدين" على حرير وقطيفة واستبرق من غير أن يؤرق نومهم – على الأقل – وخز الضمير من أجل أحوال إخوانهم – أو جيرانهم ..!
وضع الإسلام نظام الخلافة .. ولكن الخلافة انقلبت إلى ملك عضوض ..! فحاولوا أن تتصوروا بأى حكم يمكن أن يحكم به أبو بكر وعمر بن الخطاب ( رضى الله عنهما) على ورثتهما فى الخلافة .. الذين يلهون فى قصورهم بـ"الحريم والخدم" خلف أسوار منيعة .. وبدلا من رفع راية جهاد الأعداء يخططون للمداهمات والقرصنة وحروب السلب والنهب ... هنا ينبّهنا بيجوفيتش قائلا: "لا ينبغى أن يغيب عن أذهاننا تلك الحكمة التى تذهب إلى القول بأنه (كما تكونون يُوَلّى عليكم) .. فإذا تبيّـن لنا ان نظام حكم ما قد تطرق إليه الإستبدد وتمكّن منه .. وأن جميع صنوف الفساد قد عشّشت فى أركانه .. فلا بد أن نفهم أن شيئا ما قد (تعفن تعفّنا شديدا) داخل الشعب نفسه، فمن حق الشعوب الصالحة الطاهرة وحدها أن تنعم بالحكّام الصالحين ... وقد سُئِل الرسول صلى الله عليه وسلم فى سياق حديث طويل: أَنهْلكُ وفينا الصالحون يارسول الله..؟ فقال الرسول: نعم .. إذا كثر الخبث ...! ويبدو أن عقوبة الصالحين هنا سببها أنهم قصّروا فى النصيحة .. أو تخلّفوا عن المواجهة حتى تكاثر الخبث واستشرى...!!"
كذلك يذكرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القضاء العادل هو الذى يضمن إسترداد الحقوق لأصحابها الضعفاء من مغتصبيها الأقوياء .. وهو الذى يصون التوازن بين قوة السلطة الطاغية وبين المجتمع المستضعف .. وأن الحكم العام على أى نظام للقضاء هوأن هناك (قاضٍٍ فى الجنّة و قاضيان فى النار) .. وليس هناك شىء يمكنه مقاومة فساد الحكم وتاثيره التدميرى على الشعوب كالإيمان بالله والإحياء المتواصل للأخلاق الإسلامية الرفيعة .. لذلك يجب على الشعب أن يملك قوة الوعي ووسائل المعرفة والتمييز ليفك عن نفسه الاغلال التى تقيد حركته ويضرب على يد القاضيين الّذيْن هما من أهل النار..!!
لقد أقام الإسلام حربا على الشرك وقضى عليه بحركة واحدة بدأت فى جزيرة العرب ثم امتدت خارجها لتشمل مناطق شاسعة فسيحة من العالم آنذاك .. ولأن الإسلام يعتبر الشرك والخرافة صنوان .. لذلك كان حاسما قاطعا فى وضع حد فاصل بين الإيمان والخرافة .. ولكن الخرافات فى عصور متأخرة عادت لتجد لها مرْتعًا خصبا فى قلوب كثير من المسلمين وبيوتهم .. خرافات إتخذت العديد من الأشكال: فظهرت فى صورة التمائم والطلاسم وقصص الجن التى تتلبس الناس .. وطغت العادات القبلية والوثنية الموروثة متّشحة بعباءة الدين .. لتمهد الطريق لتجارة رابحة بهذا الدين المظلوم بجهل أهله .. ذلك لأننا لم نتنبّه إلى المبدأ الجوهري فى العلاقة التاريخية الطاردة بين الدين والخرافة .. ومنطوق هذا المبدأ على حد تعبير على عزت بيجوفيتش: " إذا لم يقض الدين على الخرافة قضت الخرافة على الدين .." و لذلك كان النبى محمد صلى الله عليه وسلم بالغ الإهتمام بتعليم المسلمين حتى فى أيام الحرب الضروس، إذ جعل تعليم عشرة من المسلمين فدية للأسير ممن أسر من المشركين فى أول مواجهة عسكرية ناجحة .. وأعنى بها معركة بدر الكبرى".
لم يكن من قبيل الصدفة إذن أن نجد المسلمين الأوائل يبذلون جهودا عظيمة متصلة لترجمة مكتبات كاملة من الللغتين اليونانية واللاتينية ، دونما خوف من كون هذه الكتب قد أُلّـفت فى إطار حضارات وثنية ، فقد كانت قاعدتهم فى ذلك هى الحديث النبوي الشريف: (الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أولى بها) .. يقول بيجوفيتش: رغم علمنا بوجود هذا التوجيه النبوي الواضح ينادى أحد حكام المسلمين فى هذا العصر وباسم الإسلام ..! بوضع حدود على تعليم شعبه .. ويرفض حاكم آخر تعليم البنات باسم الدين أيضا .. وكأنهما يريدان خدمة الإسلام بنشر الجهل بين أبنائه وبناته ..!؟
يتابع عزت بيجوفيتش فى هذا المجال تفاصيل مزرية عن أوضاع التعليم فى بلاد المسلمين حيث يقول: " إن أغلب الدول المسلمة لا تنفق على التعليم أكثر من 1% من ميزانياتها" وقد إستقى بيجوفيتش هذه المعلومة من تقرير منظمة اليونسكو لسنة 1964 عن حالة التعليم فى البلاد التى تسكنها أكثرية مسلمة .. ويضيف قائلا: "إن الدول التى تسعى بحق إلى مجرد القضاء على أمية شعوبها فى زمن معقول ومحدّد .. تخصص لهذه المهمة أضعاف هذه النسبة من دخلها الوطني ، لا تقل عن خمسة أضعاف النسبة التى تخصصا الدول المسلمة للإنفاق على التعليم العام فيها ...
ينتقل بيجوفيتش ليكشف عن حقيقة إسلامية أخرى طرحها المسلمون جانبا فزاد بعدهم عن الإسلام أكثر فأكثر .. يقول: " يهدف الإسلام إلى إقامة جماعة متضامنة من خلال العبادات المفروضة .. مثل الإيمان بالله والصلاة والصوم والزكاة والحج .. ليؤكد فى قلوب المسلمين أنهم جماعة واحدة .. أمة واحدة يسعى بزمتهم أدناهم .. وهم فى رد العدوان يد واحدة على من سواهم .. أمة يتقاسم أبناؤها فيما بينهم روح الجهاد كما يتقاسمون الأفراح والأتراح ، وليكون تحقيق الأخوة بين جميع الناس هدفا دائما يسعون إليه ، ولكننا على النقيض من ذلك نشهد اليوم صورة تعيسة أبعد ماتكون عن روح الإسلام وتعاليمه الواضحة الصريحة .. نشاهد اليوم أن أغلب مجتمعات الدول المسلمة مزيج مضطرب من كثرة غالبة من فقراء الفلاحين .. وقلة من الأغنياء الذين يكتنزون ثروات فاحشة .. ونشاهد مجموعات من المثقفين المستغربين الغرباء عن ثقافة مجتمعاتهم الإسلامية يعيشون فيها كأنهم أجانب فى شلل معزولة عن ثقافة شعوبهم وأوطانهم ..! ومجموعة أخرى من أئمة المساجد ورجال دين أكثرهم لا يحسن فهم الدين .. وإن فعل فإنه لا يحسن تقديمه بطريقة مقنعة .. لأنه لا يحسن فهم الواقع الذى يدور من حوله بأبعاده الإجتماعية والإقتصادية والسياسية ...! إن الفلاح الجاهل الفقير يحب الإسلام (وقد لا يفهمه ) ، والغنى يُظهر ولاءه للأسلام نفاقا للجماهير، ويظل المثقف معاديا له أو غير مبالٍ به .. ولقد صدق النبى ( صلى الله عليه وسلم) حين قال: ( إن أخوف ما أخاف على أمتى عابد جاهل وعالم فاجر ) ..."
نعم هناك بين المسلمين أمور كثيرة تقشعر لها القلوب والجلود .. وحتى غير المسلمين قد أدركوا ولاحظوا ذلك وسجّلوه فى كتاباتهم .. من هؤلاء ( لوثروب شْتودارد) إذ يقول: "لو قام محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من قبره ورأى كم بدّل أتباعه دينه ، لاحمرّ وجهه غضبا ولعن كل من شارك فى تلك البدع" .. [ إقرأ كتاب Lothrop Stoddard فى كتابه "حاضر العالم الإسلامى" الذى نشر غداة الحرب العالمية الثانية] ...
يقول بيجوفيتش: "تشكلت فى البرلمان الباكستانى قبل عدة سنوات لجنة خاصة لدراسة التدابيرالتى تهدف إلى علاج المجتمع من الأمراض الاجتماعية التى يعانى منها شعب الباكستان وأوصت اللجنة بمحاربة الخمور وبيوت الدعارة والربا وبعض العادات الجاهلية لأن هذه الأوبئة تفتك بالمجتمع وتعود عليه بأضرار اقتصادية وأخلاقية بالغة .. ثم نشرت وسائل الإعلام أن أصحاب بيوت الدعارة نظموا مظاهرات فى مدينة كراتشى احتجاجا على توصيات اللجنة ، مطالبين "بحرية العمل" أين ..؟؟ فى دولة تعلن عزمها على تطبيق الشريعة الإسلامية ..!!؟؟
هذه بعض صور من واقع الشعوب المسلمة .. قد لا تكون شاملة ، ولكنها قاتمة وصادمة بما فيه الكفاية .. ويمكننا سرد الكثير من هذه المظاهر المحزنة ، التى تستصرخ من ينهض ليهدمها بمعاول الإصلاح ، ومع ذلك فإن الملسمين المخلصين يجدون بعض السلوى فى إداكهم أن الوضع القائم ليس نتيجة لتطبيق الإسلام .. بل بالعكس ، إنه نتيجة لرفضه وإستبعاده من حياة المسلمين وواقعهم .. ليس نتيجة لحضوره ، بل نتيجة لغيابه ... !
إن هذه السلوى قائمة على المنطق التالى : إذا كان قد ترتب على غياب الإسلام مرحلة تعيسة طويلة من التخلف والفوضى والفساد ، فهل عودة الإسلام تعنى إشراق روح جديدة وبداية عهد زاهر فى حياة الشعوب المسلمة ...!!؟ [
لا حظ أن بيجوفيتش لا يطلق أبدا وصف الإسلام على الدول والشعوب التى تنتسب إلى الإسلام .. فهى فى كتاباته ِشعوب أو دول[ مسلمة ] فقط وليست [ إسلامية] كما جرت العادة الخاطئه الشائعة فى أدبياتنا الإعلامية والصحفية .. ذلك لأنها شعوب ودول لم يتحقق لها الشروط الواجبة التى تؤهّلها لهذا الإسم .. وهذا موضوع آخر يطول شرحه ...]
يقول بيجوفيتش: " كلما طرحنا هذا السؤال ، نُواجَه على الفور بسؤال إعتراضي عن صلاحية الإسلام وقدرته فى الزمن المعاصر على إلهام حياة الأنسان وتوجيهه فى ظروف جديدة ومتغيرة ..!! إننا كثيرا ما نسمع إعتراضات من قبيل: لقد كان الإسلام (أو ربما كان) عامل تطور و ربما كان ملائما للعصور القديمة التى اصبحت فى حكم الماضى المندسر .. ولكننا نعيش الآن عصر الذرة .. إلى آخر هذا الكلام .. كأن ظهور (عصرالذرة) هذا قد بات حجة دامغة فى الحديث عن صلاحية الإسلام للحياة أو عدم صلاحيته ...!!
يقول على عزت فى تفنيد هذه التوجّهات اللاعقلانية فى النقاش: "إن الحديث عن صلاحية الإسلام لعصرنا الحاضر لا يمكن إجراءه بعمومه وإطلاقه .. ذلك لأنه قبل الحديث عن صلاحية الإسلام أو عدم صلاحيته يجب أن نتحدث أولا عن الأمور التى يأمر بها أو ينهى عنها .. ومن أمثلة ذلك قد نتساءل ببساطة: هل نهْيُ الإسلام عن شرب الخمر وأمْـرُ المسلم بالحفاظ على طهارة البدن ونظافته صالح أو غير صالح لهذا العصر ...؟ أو : هل كانت أركان الإسلام خارجة أوبعيدة عن التوجه الحضارى الذى يحدد اليوم اتجاه تطور الإنسانية ...!؟ "
"وإذا تطرّقنا إلى أهم وأبرز ما عُرف عن الإسلام فى أشهر عباداته وأثرها على حياة المسلم و حياة مجتمعه، فإن الذهن ينصرف تلقائيا إلى أوامره الخمسة المعروفة باسم "أركان الأسلام" .. فتعالوا بنا نبحث فى إيجاز عن صلاحية أركان الإسلام الخمسة ومدى تواؤهما مع هذا الذي يسمى بـ"عصر الذرة"...:
" إن أي طفل من أطفال المسلمين وكل مبتدئ فى إعتناق الدين الإسلامي يعرف أن ركن الإسلام الأول هو: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول) فهل يمكننا أن نلفت نظر دعاة التنوير والمتشدقين بالحداثة والليبرالية .. وغيرها مما يملأ قاموسهم من مصطلحات وشعارات تافهة وغامضة .. هل يمكننا أن نلفت نظر هؤلاء الذين يشككون فى مستقبل الدين فى (عصر الذرة) بأن أعظم رائد نهضة فى العصر الحديث ألبرت أينشتين Albert Einstein الذى أدخل العالم فى عصر الذرة هو نفسه الذى أعلن مرارا وتكرارا أنه يؤمن بالله .. وأنه كان يرى أن إيمانه بالله لا يتعارض أبدا مع ما توصل إليه فى علوم الفيزياء والفلك .. رغم كل ما تعنيه هذه العلوم لحياة الأنسان .. فلننظر إذن بتمعّن فيما يراه أينشتين فى هذه المسألة .. إنه يقول بلا غموض أو التباس : " إن أساس الأديان يكمن فى المعرفة والشعور بأن ما لا يمكنك إداركه والإحاطة به موجود بالفعل .. وجودا يتصف بأكمل حكمة وأبهى جمال وأعظم جلال يمكن أن يصل إليه خيال الإنسان .. ولكن حواسنا الضعيفة المحدودة لا تقوى على إدراكه إلا فى أبسط صورة .. لذلك فأنا متدين جـدّا .. إن قلبى يرتضى بقبول سرّ الحياة الخالدة .. وبمعرفة وتخيّل هذه الهندسة البديعة للكون .. ومن ثمّ فإننى أحاول متذلّلا ضارعا إلى الخلاّق العظيم أن يساعدنى على إدارك ولو بجزء صغير من علمه بهذا الكون .. أن أستوعب شيئا من قدرته المبدعة التى تتجلى فى كل ذرة من ذرّات الطبيعة ..."
يقول بيجوفيتش: "إذن ليس الدين كما يزعمون فى دراساتهم الأنثروبيولوجية خاصية من خصائص بدايات التاريخ الإنسانى .. أو أنه سمة لازمة تدمغ عقلية الشعوب البدائية بالتخلف .. هذا التخلف الذى قضى عليه عصر العلوم الحديثة ...!! وبالمثل نقول: أن الإلحاد وإنكار الدين وإنكار الألوهية ليسا بالضرورة خاصية من خصائص (عصر الذرة) .. ولا العصر الحديث كله قبل الذرة وبعدها.. لقد كان الدين والإلحاد دائما فى صراع متصل عبر جميع عصور الإنسانية منذ خلق الله الأرض حتى يرثها ..."
فى آخر شوْط من مقالته يلخص بيجوفيتش فى لمحات سريعة أركان الإسلام الأربعة الباقية ليرى القارئ إذا ماكانت تتواءم حقا أو لا تتواءم مع العصر الحديث فيقول :
"ليست الصلاة الإسلامية عبادة محضة .. إنها كانت ويجب أن تكون من جديد مدرسة للانضباط والتآخى والتضامن .. الصلاة طهارة وعمل ومشاركة .. لقد اطلع قائد جيوش الفرس الوثنيّ على صفوف المسلمين المتراصة أثناء أداء الصلاة قبل معركة القادسية فصاح :" هذا جيش عمر فى حصة التدريبات العسكرية !"
" والصوم (إضافة إلى كونه عبادة مفروضة) هو تربية شاقة تسعى لتحقيق أهداف متنوعة فى حيات الفرد والمجتمع .. إنه يُحْيى معانٍ تربوية وصحية واجتماعية كثيرة .. لذلك لم تكن المجتمعات الإسلامية ترى فى الصوم مجرد مسألة خاصة بالفرد ، بل كانت تثور ثائرتها أمام كل مجاهرة بانتهاك حرمة هذه العبادة .. لأنها كانت ترى فى ذلك هجوما سافرا على تماسكها الداخلى الذى يبنيه الصوم .. إن الصوم تهيئة نفسية لفريضة الزكاة تعاطفا مع الفقراء ، لأن كل المسلمين الصائمين يعلمون جيدا معنى الجوع ، أما الذى لم يمارس الصوم منهم فإنه يعيش ويموت دون أن يشعر بوطأته وبالتالى لايشعر بحاجة الجوعى إلى الطعام ...!!"
" والزكاة الإسلامية ليست صدقة بل هى أشبه بضريبة ، أو إلزام بإخراج جزء من المال لصالح المحتاجين .. و مؤسسة الزكاة فى الإسلام تتضمن مقومات راسخة ليس لمحاربة الفقر فقط بل لمحاربة البخل وشُح الأنفس أيضا .. إن الزكاة من شأنها تنمية شعور التفاهم والإحترام فى المجتمع المسلم الذى يعيش هذه الأيام فى أزمة خواء بسبب إنعدام هذه القيم والمبادئ ..."
" و الحج أكبر تجمع معروف يشهده العالم ..و بناء على معلومات رسمية عن موسم الحج لعام 1962م ، لقد وقف فى صعيد عرفات 1,185,948 حاج قادمين من 68 دولة .. ولا يكاد المسلمون اليوم يستفيدون من الأمكانات الروحية والسياسية لهذا الملتقى الفريد من نوعه .. لأن الحج يجب أن يتحول إلى أقوى عامل لتقارب الشعوب المسلمة وتعارفها فى زمن هذه الفرقة المحزنة .. إن الجو العام فى الحج هو المساواة .. حيث يقف ملايين الحجاج (الرجال) مرتدين ملابس واحدة .. يحركهم فكر واحد .. وقد تلاشت بينهم جميع الفوارق ، وهذا مشهد لا يمكن وجوده فى أى مكان آخر فى هذا العالم .. وستظل هذه الصورة التى لا يوجد مثلها أو قريب منها .. صورة المساواة والأخوة المطلقة، ستظل حدا فاصلا بين الواقع والحلم..." .
" إستمع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) فى خطبته الشهيرة أثناء حجة الوداع حيث يقول مودّعا أمته: (أيها الناس ، كلكم من آدم وآدم من تراب .. لا فضل لعربى على عجمى .. ولا فضل لأبيض على أسود ... إن أكرمكم عند الله أتقاكم !) ... فهل هناك أفضل مكان وأعظم لحظة من ذلك المكان و تلك اللحظة التى اختارهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) ليوجه هذه الكلمات العظيمة إلى أمته ...!؟ هذه الكلمات التى هى أبسط وأخلص وأروع ما قيل فى حقوق ومساواة الإنسان .. إنها الكلمات التى مازالت غاية منشودة يتطلع إليها البشر لا فى النصف الثانى من القرن العشرين فحسب .. بل فى كل القرون وكل العصور ....؟ فلْيوفـّرالحداثيون واللبراليون والتنويريون جهدهم فالمسلمون الحقيقيون الآن ولا فى أي عصر قادم يمكن أن يغيّروا إيمانهم الراسخ بهذه الرسالة النبوية الخالدة .. ولن يخطر ببالهم فى يوم من الأيام أن يتبنّوا مزاعمكم الكاذبة بأن هذه الرسالة قد عفا عليها الزمن .. ذلك لأن واقع الحال يقول عكس ذلك تماما : أن الشعوب بحاجة إلى هذه الرسالة اليوم بقدر ما أحتاجتها بالأمس ...!"
" إننا لنشهد اليوم ظهور حركة جديدة وإرادة جديدة فى بلاد العالم المسلم كلها ، حالتنا اليوم هى حالة حركة وبحث .. بغض النظر عما يعتريها من عوامل الحيرة المؤقتة.. أوالانحراف والهزائم والعوارض الناجمة عن طول عهد الأزمة والركود .. إن هذه المرحلة قد تشبه كل شىء ما عدا النوم والسكون .. إن هذه الإرادة الجديدة للفكر الإسلامى سيقوى عودها .. وسوف تعززها الخيرات الطبيعية التى يزخر بها العالم المسلم .. هذه الإرادة قادرة على أن تبهر العالم من جديد بالنه
ضة الإسلامية فى الأيام القادمة .. وكل مسلم فى هذا العالم مطالب بأن يكون عنصرا فعّـالا فى هذه النهضة ...! "


موضوعات ذات صلة على صفحة .. إسلاميات

هناك تعليق واحد:

عبد الواحد يقول...

الله الله مشاء الله اخى بارك الله فيك انجاز لو كانت الحكومات والشعوب الاسلاميه حملت عشر هذا الامر والهم لخرجنا من العدم وتكلاب المجوس والامم علينا ولصاروا لنا عبيدا بالحاح منهم مهمى رفظنا لكن الامور تمشى بالمقلوب
لانه قد حظر امر حتميا قد ان اوانه
فلا ينجوا من فتنته وفتنة الدجال واتباعه من المجوس واليهود واذيالهم لاينجوا من ذلك الا من اخلص الايمان انها الفتنة الكبرى شرعت فى الظهور ولايسلم منها الا من رحم ربك وكان صافى الاخلاص ومن يصدق المجوس او يواليهم او يامن جانب اذيال المجوس اول الساقطين فى الفتنة التى استعاذبالله منها ومن شرها خير الانام محمد صلىالله عليه وسلم